الأحد، 24 يوليو 2011

وقائع مسيرة العباسية يوم 23 يوليو 2011




يعتقد البعض أن كل من تعرض للمتظاهرين فى العباسية يوم 23 يوليو كانوا بلطجية مأجورين من الشرطة, و يصر البعض الاخر على ان كل من شارك فى العنف ضد المتظاهرين يوم 23 يوليو هم من أهالى العباسية و ان ما حدث يدل على غضب سكان العباسية--و الشارع المصرى بصفة عامة--الذين طفح بهم الكيل و فاض من "عمايل" معتصمى التحرير. و الرأيين فيهم شيء من المغالطة فالأول مبنى على نظرة رومانسية بعيدة عن واقع الشارع المصرى و الثانية التى يتبناها بعض النشطاء فيها قدر لا بأس به من المغالاة و المبالغة في جلد الذات. عموما سأعرض شهادتى عما حدث و اختصار للاحاديث الى دارت بينى و بين الاهالى و الظباط و اترك الحكم على حقيقة الطبيعة "الديموغرافية" للمجموعات التى هاجمت المسيرة للى هيقرا.  

بدأت المسيرة بعدد لا يتعدى ال500 و طافت مرتين داخل الميدان لاستجداء الناس للانضمام ثم توقفت قليلا عند المنصة واستمعنا لخطبة حماسية لاثنين من شيوخ الازهر و شيخا ثالث يعمل بوزارة الأوقاف ثم بدأنا فى التحرك. لاحظت ان العدد زاد أول ماوصلنا شارع رمسيس و قبل ما نوصل عند مقر جمعية الشبان المسلمين تقريبا كان العدد تعدى ال5000  (صحابى كانوا بيتصلوا بيه يقولولى "احنا شايفين على النت العدد وصل 20,000 او 30,000, فكنت بقولهم ان الرقم ده مبالغ فيه جدا و رغم انى ماكنتش شايف من مكاني أول و لا آخر المسيرة الا انى لا اعتقد ان العدد لم يزيد عن 7000 فى اقصى تقدير), عموما انا جريت للصفوف الاولية عشان احاول اقدر العدد و بصفة عامة العدد كان اكتر مما توقعت و المسيرة كانت حيوية جدا بالذات بسبب الاخ ابو بيريه إلى كان ماسك الميكروفون و عنده بئر لا ينضب من الهتافات الحماسية.

لى تعليق برضه عن تفاعل سكان الشوارع التى مرت بها المسيرة و المارة بصفة عامة من المظاهرة: قرأت في شهادة أخرى لأحد النشطاء الذين شاركوا فى المسيرة ان المارة و سكان المناطق التى مرت بها المسيرة تفاعلوا بصورة أغلبها سلبية مع المتظاهرين, و هي ملاحظة غير دقيقة فى رأيي او على الأقل غير مكتملة. حصل بالفعل بعض المشادات الكلامية مع بعض الناس و اذكر ان كان فى واحد من الاهالى الى واقفين فى البلكونات بيشاورلنا بصباعة و بيهز راسه فى اشارة الى رفضه للمسيرة او الهتافات الى تركزت الانتقادات فيها على المجلس العسكري, لكن كان فى عدد كبير من الناس (فى تقديري أكثر من عدد الرافضين) بحيينا إما بالتصفيق او الإشارة بعلامة النصر (واحد من طيارين كوك دور قعد يطنطط جنبنا و هو بيشير بعلامة النصر على الرصيف). وصلنا الى اخر الشارع عند مسجد النور لنجد الطريق مسدود بالسلك الشائك و من وراءه عدد محترم من المدرعات و الجنود من الشرطة العسكرية و الصاعقة. بدأنا فى الكلام مع ضباط الشرطة العسكرية و محاولة إقناعهم بالسماح لنا بالمرور مستشهدين بسلمية المظاهرة و بوداعة منظر المتظاهرين (او  اغلبهم على الأقل). أثناء الحديث بدأ بعض المتحمسين في محاولة دفع السلك الشائك بأيديهم فمنعاهم بسرعة و أكدنا للجيش اننا لا ننوى المرور إلا إذا سمحوا لنا بالمرور. لم يمر أكثر من عشر دقائق حتى بدأ قذف الحجارة من شارع داخلي مقابل لمسجد النور—و بما أنى كنت من الواقفين في الصف الأول عندما بدأ الضرب فمن واجبى أن اؤكد ان المتظاهرين لم يبادروا باى عنف او محاولة استفزاز و ان الهجوم بدأ من الشارع المقابل لمسجد الفتح سواء كان من طرف بلطجية او سكان المنطقة و الله على ما أقوله شهيد. أول ما بدأ الضرب بدأت مجموعة من الشباب المتحمسين فى رد الضرب بالحجارة و فشلت جميع محاولات احتواء العنف من جانب المتظاهرين. مافيش مفر من إنكار ان قلة من المتظاهرين كان عندهم استعداد للتعامل مع العنف بعنف و كانوا رافضين تماما لفكرة ضبط النفس و الحفاظ على سلمية المسيرة بغض النظر عن تعرضها لهجوم غير مبرر, و رغم ان ده قد يندرج تحت بند الدفاع عن النفس المشروع إلا اننا حاولنا أن نشرح لهؤلاء المتحمسين ان رد العنف بالعنف سيحسب علينا خصوصا ان الاعلام الحكومى يعمل على مدار الساعة على تعبئة الرأى العام ضدنا و أن السياسة الأفضل فى الوقت الحالى هى ضبط النفس عشان مانبقاش دخلنا برجلنا في الفخ الى نصبوهلنا.  و بعد فترة من التخبط و مع استمرار الهجوم بالطوب و المولوتوف و الزجاج المكسور من الشوارع الجانبية اصبح من المستحيل احتواء العنف و استمر الضرب لساعات بعدها, و بعد ساعة تنبهنا الى حقيقة اننا اصبحنا محاصرين بعدما تعرضنا لهجوم خلفى من شارع رمسيس—فبقينا بنترضب من جبهتين و الطريق مقفول من الناحية الى واقف فيها الجيش. التصرف الوحيد الى الجيش اتخذه كان ضرب نار فى الجو من مدفع الى بس الموضوع استمر دقيقتين او تلاتة على الاكثر و لم يكن له تأثير على أى من الأطراف المتشابكة . استمرت حالة من الكر و الفر و الضرب يتزايد احيانا ثم يهدأ احيانا. الضرب يهدى شوية و نروح نكلم الظباط من وراء السلك الشائك و فجأة نلاقى قزايز و طوب بيتحدف علينا و احنا بتحاول بالعافية نطلع راسنا من جوه السلك من غير ما وشوشنا تتشرح عشان نلحق نجرى فى اتجاه الرصيف! بعد ساعة تقريبا عاودنا الحديث مع الضباط, اصر الضباط على التأكيد على الاوامر الى تلقوها بعدم التدخل, و قلنالهم احنا عارفين ان عندكوا اوامر لازم تنفذوها, بس لازم تعرفوا برضه إنكم كجيش و خصوصا فى الفترة دى الى بتقوم فيها واقعيا بدور الشرطة فى الشارع عليكم مسؤولية التدخل لفض الاشتباكات و منع وقوع إصابات بين المدنيين.  يرد على احد الظباط "والله العظيم احنا النهاردة منزلنا بأوامر ان احنا منضربش حتى لو اضربنا او اتشتمنا" (يقول هذا ليدلل على ان الجيش لا يحمل ضعينة للمتظاهرين, فى حين ان الكلام ده مؤشر على حاجة واحدة ان الجيش الى اكيد كان على علم مسبق بحالة التربص فى منطقىة العباسية و إن اشتباك من المؤكد هيحصل, ادى الاوامر دى عشان الناس تفضل تضرب فى بعدها لحد مانستنزف تماما و فى الاخر المجلس الاعلى هو الوحيد المستفيد من ترسيخ الفكرة السائدة عند قطاع كبير من الشعب ان المظاهرات و المسيرات فوضى و تخريب و عربيات بتتحرق و اسعاف نازل عكسى من على الكوبرى الخ).

حاولنا اكثر من مرة اقناع المتظاهرين بالخروج و العودة للتحرير عن طريق المستشفى الجامعى, و لكن المتظاهرين أبدوا تخوفا من ان يستمر الضرب و الملاحقة من شارع رمسيس حتى لو قررنا الانسحاب (كثافة الهجوم من شارع رمسيس ماكنتش مبشرة بان الضرب هيتوقف لو انسحبنا و طلعنا على شارع احمد لطفى السيد). فضلنا واقفين شوية مترددين و بندور على أفضل طريقة للخروج بس كمجموعة واحده (فى حين ان الضرب من الشارع الجانبى المتفرع من رمسيس كان مستمر). توالت الإصابات و منظر الناس الى متشالة على الاكتاف و هما فاقدين الوعى فكرنى بموقعة الجمل. و احد من المصابين كان عنده 14 سنة بالكتير كان مصاب بخرطوش فى بطنه—و الاصابة دى كانت قبل ظهور الأمن المركزى  (الحق يقال انا ماعرفش اميز اصابة الخرطوش عن غيرها لكن الطبيب المسعف أكد لى انها كانت اصابة خرطوش). رجعت تانى للظباط الواققين خلف السلك الشائك و بقولهم "طيب يا جماعة لو مش عايزين تدخلوا لفض الاشتباك ماتعلمونا شوية تكتيكات عسكرية—عايزين نعرف ازاى نتقهقر و احنا بنتضرب من الخلفية عشان ننسحب بأقل خسائر ممكنة؟" كشروا فوشى كالعادة. بعد شوية ظهر الأمن المركزى لفترة وجيزة ضربوا قنابل مسيلة للدموع علينا وصل تأثيرها لظباط و عساكر الجبش الى واقفين ورا السلك الشائك فقعدنا نهرج معاهم و نقولهم "دى حاجة بسيطة خالص ده كده الأمن المركزى بيسلكوا زورهم بس" بعض الناس  فقدت اعصابها تماما و قعدت تشتم فى الضباط و تصفهم بالجبن و طبعا ماكانوش بيردوا. على الساعة 8 اتفتح مسجد النور الى كان مقفول لينا واعتلى المنيبر واحد من الشيوخ المنضمين لمسيرتنا. الشيخ صلى بينا العشا و اطال فى الدعاء قبل السجدة الاخيرة و بدأ فى البكاء بحرارة و عندما دعا قائلا "يا رب ليس لنا الا انت فقد تركنا الناس و لم يعد لنا إلا أنت" بكينا كلنا معاه. ثم بعد الصلاة بدأ فى مناشدة الناس ان يعودوا للتحرير حقنا للدماء.

في الساعات الأخيرة قبل ان ننجح في ان نوحد الصفوف للعودة جمعا لميدان التحرير بدأ أهالى المنطقة فى الاختلاط بالمتظاهرين و الحديث معهم. واحد من أهالى العباسية قالي ان فى عملية استنفار"شغالة من امبارح" و ان "ناس كده" (لم يحدد هويتهم) من امبارح بليل بتحشد ناس على أساس ان في "عملا و خونة رايحيين يولعوا فى وزارة الدفاع بكرة و النتيجة ان الناس دى محنشدة من الساعة 3 و مستنياكوا عشان يضربوكوا" . بعد شوية تدخل فى الحديث واحد تانى و قعد يجادل معانا بقوله حضرتك مين؟ قال لى "انا واحد من الى كنت بضرب فيكوا من شوية! ايوه كنت بضرب فيكوا مانا شايف ضرب و مش عارف مين الى بيضرب!". صعب عليا حاله و حالنا ماحنا الاتنين حالنا من بعض و الذنب ذنب الى عايز يحكم البلد عن طريق التفرقة و اثارة الفتنة.

ثم دار حديث بينى و بين اتنين تلاته كانوا من سكان المنطقة متعاطفين مع الثوار و اكدوا ان كان فى سوء تفاهم حاصل. بعد كده كلمت مجموعة تانية عمرهم مايزدش عن 16 سنة كان رأيهم مختلف تماما و قعدوا يرددوا كلام فارغ عن الدعارة و المخدرات في الميدان—واحد منهم ورانى اصابة فى دراعه من التراشق بالطوب. تركت الحديث مع الأهالى و بدأنا فى تكثيف الجهود من اجل الخروج فى كتلة واحدة و العودة الى التحرير. ثم سمعت واحد (راجل كبير فى الخمسينات مثلا) بيقول "الواد بيقول للظابط هنرجعلكوا تانى—عيال قليلة الادب متربيتش". كان الكلام مع السكان خاصة المتاثرين منهم بالاشاعات البلهاء من عينه جنس و مخدرات فى التحرير قد ارهقنى و رغم ذلك لم استطع مقاومة إغراء ان اسأله ما وجه الصفاقة بالضبط فى الكلمة دى—قلت له بأدب مصطنع "هو حضرتك الى يطالب بحقه يبقى قليل الأدب؟", و الحقيقة الراجل كان عصبى فجاء رده مختلط بالرذاذ و الكلام الفارغ الذى ينم عن فكر سلطوى متجذر فى الاسرة المصرية اصلا عن ان العيال لازم تحترم الكبير (والاحترام معناه انك متطالبش باى حاجة و تعامل الحكومة زى ما بتعامل ابوك بالضبط), ولكن الآخرين ممن وقفوا معه كانوا اكثر تحضرا و كلمونى بالراحه عن "وقف حال البلد" و عن مخطط "حرق وزارة الدفاع", و كل شوية الراجل الاولانى العصبى يرفع من حدة الحديث فمرة يقول لى "على فكرة حتى لو ماكانش فى شرطة عسكرية احنا كنا هنمنعكوا من الوصول لوزارة الدفاع"!, و مرة تانية يقول لى "بطلوا تقولوا الشعب انا مش عايزكم تتكلموا باسمى", احاول اهاوده و اقوله "يا سيدى مااهو انا شعب و انت شعب لو مش عاجبك الى باقوله من حقك تنزل و تقول الشعب يريد عكس الى انا بقوله برضه انما اكيد انا مش هامشى فى المسيرة و اقول 27% من الشعب يريدون اسقاط المشير مثلا!" استمر الحديث الى ان جاء شاب فى سنى و طلب منى باقتضاب ان اتركهم لحالهم و اعود الى التحرير, قلتله "و انت ايه الى مضايقك انا بتناقش مع الناس بهدوء؟", و لما العدد زاد حوالية (كان فى تقريبا 8 واقفين فى دايرة حوالية) و زادت الحدة فى الكلام فكرت للحظة ان الموضوع قد يتطور وألاقى نفسى "معتقل من الشعب", لحد ما رجع نفس الشاب و شدنى برفق الى خارج الدائرة و اتضح انه احد المتظاهرين المنضمين الى المسيرة اصلا و خدنى من دراعى و هو بيقول "الناس دى مشحونة بكلام فارغ عن التحرير مش هتعرف تقنعهم بغير كده فى الظروف دى و هما كتير دلوقتى و الموضوع ممكن يقلب بعنف بسرعة خلينا نلم بعضنا و نمشى تفاديا لاى مشاكل". كانت الساعة 10.30 تقريبا و بدأنا فعلا فى المشي فى مجموعات صغيرة عائدين للتحرير.

المهم انا بس عايز اوصل نقطتين للناس الى مصرة تأكد ان دول اهالى مش بلطجية (و هو كلام صحيح الى حد كبير) و ان احنا اخطئنا فى تقدير الأمور و فى تقدير حالة الاحتقان إلى وصلها الشعب من التحرير: 
-     حديثنا مع الاهالى لا يعنى بالضرورة ان كل من اشتبكوا مع المتظاهرين كانوا مع الأهالي, و الأوقع انهم كانوا مجموعة مختلطة من السكان المشحونين ضد التحرير, و مجموعة من السكان الذين انتفضوا للدفاع عن منطقتهم و بعض من البلطجية (بالمعنى الأصلي للكلمة إلى حصله تشويه و مط بعض الثورة—اى محترف خناق مأجور او مدفوع من جهه معينة لإثارة الشغب), خصوصا ان أكثر من واحد من السكان نفسهم أكد ان عملية "حشد" منظمة للسكان كانت قد بدأت بالفعل بعد مسيرة 22 يوليو و ان بعض المشاركين فى الاشتباك لا ينتمون للعباسية.
-    تانى حاجة لا يجب ان نقلل من الفجوة الموجودة بين المتظاهرين و المعتصمين فى التحربر و بقية الشعب, ولكن لا نستطيع ان نلوم أنفسنا على اتساع الفجوة دائما فى ظل وجود إعلام معادى للثورة و الثوار و فى ظل تردد اتهامات باطلة يدعمها المجلس العسكرى عن العمالة و الخيانة و الجاسوسية. كما اننا لا يجب ان نبالغ ايضا فى حجم هذه الفجوة, فودية المشاه و السكان الذين مرت بهم المظاهرة قبل الوصول الى العباسية مؤشر قوى ان مازال هناك قطاع (قد يكون أقلية) من الشعب مؤمن بقضيتنا او على الأقل متعاطف معها, والله أعلم.

الثلاثاء، 12 يوليو 2011

عن الأساطير المتعلقة بالقوات المسلحة—مجلسها و ظباطها—و موقفها من الثورة (تكملة لما سبق):


2-      لم اتوقف عن التفكير فى موقف ظباط الجيش الحقيقى الكامن فى النفوس (بخلاف الموقف العملى الذي أملته عليهم الظروف) من الثورة و التظاهرات الاحتجاجية بصفة عامة. و الشهور الأولى فيما بعد الثورة شهدت جدلا شعبيا واسعا حول هذه القضية. فعندما كانت تحدث تجاوزات من قبل الشرطة العسكرية مثلا كان البعض يتفنن فى ايجاد مبررات لتلك التجاوزات لا تتعارض مع فكرة "انحياز الجيش للثورة" (بخلاف الذين اصروا على انكار حدوث اى تجاوزات من الاساس دول عمي البصر و البصيرة فهنتجهالهم), و كنا دائما نجد ما يضحد هذه الفكرة فى تفاصيل هذه الوقائع  و التى كانت تعكس طريقة تفكير المنتمين إلى المؤسسة العسكرية, فعلى سبيل المثال كانت هذه شهادة احد الذين اعتقلوا يوم 26 فبراير:

"الأخطر من الضرب و السب الكلام الغير مسؤول اللي كان بيردده الضباط و الأفراد إللي كانوا بيضربونا. أول ما دخلت لاحظت إنهم مركزين معانا على أسطوانة الخونة و العملاء فكان ضابط بيقول لشاب بيضربه “بتاخد 50 يورو يا روح أمك علشان تشتم في الرئيس مبارك” و طبعا نفس الكلام إتقالنا كلنا. و برضه كانوا بيقولوا لواحد واحد مننا قول “يعيش حسني مبارك” و إللي مايقولش يضربوه من الأول. كان واضح تماما إن التعامل كان مش على أساس إننا بلطجية بل مأجورين لزعزة أمن الوطن.."


و بالمناسبة صاحب المدونة سجل هذه الشهادة فى تدوينة عنوانها "الجيش و الشعب يد واحدة ولكن عقل و فكر مختلفين فهل يستقيم الجسد؟" و كان وقتها من رأيه ان هذه مجرد تجاوزات استثنائية.

3-      توالت الاحداث فجاءتا واقعتى 9 مارس و 8 ابريل و سمعنا و قرئنا عن معاملة مشابهه تعكس ماهو اكثر من قسوة اعتيادية (من ضمن الحجج التى كانت تساق لتبرير عنف الجيش انهم لم يتم تدريبهم الا على التعامل بأعلى درجات العنف "مايعرفوش غير كدة"),  و لكن تعامل مع المتظاهرين على انهم مأجورين و عملاء و خونة. و كانت إحداث سفارة اسرائيل يوم 15 مايو بمثابة "طشة مية" اجبرت الكثير على اعادة النظر فى هذه النظرة الرومانسية لضباط الجيش--بما فيهم الصغار منهم, فاذا تأملنا بعض المقتطفات من شهادة محمد عفت احد المعتقلين الذى افرج عنه قبل ان يتم عرض الباقين على النيابة العسكرية:
-" المسافة مابين الشارع وناصية السفارة على الكورنيش كان شاددني من قفايا ضابط شرطة, والجيش مأمن وراهم. قعد يشتمنا ويضربنا في الطريق, قاللي "فلسطين إيه وخرا إيه, هو احنا لاقين ناكل يا ولاد الوسخة, عاملينلي فيها رجالة وعلى القدس رايحين. دانتوا شوية خولات, طب كس ام فلسطين على كسمكم""

- " وصلنا تحت كوبري الجامعة لقينا في انتظارنا حوالي 200 عسكري أمن مركزي, 10 عربيات أمن مركزي من بتوع الترحيلات, ضباط وعساكر جيش كتير.قعدونا صف جنب أحد العربيات مقرفصين على ركبنا, وشنا في الأرض وايدينا ورا راسنا, كانوا بيعاملونا ولا المجرمين أو أسرى الحرب, اللي يرفع وشه أو يحاول يعدل رجله حتى كانوا بينزلوا فيه تلطيش. كان الضرب و الاهانات شغالة عاطل على باطل"

- "ضابط جيش وقف وقعد يزعق "عاملين فيها رجالة يا شوية خولات, تعالوا اتفرجوا على الفرقة الرابعة اللي لسة داخلة الجيش من شواذ الثوره بتاعتكم. كل واحد بعد ما لبس الميري بقى يا عين أمه مش طايق, بيدور يكلم بابي أو مامي عشان يخرجوه, مش هم دول بتوع الثوره".

- فضلنا كده شوية, لحد ماجه ضابط جيش شكله كان رتبه كبيره معرفتش أحددها, ابتدى يبص في وشنا واحد واحد, تقريبا كان بيدور على حد معين. كان بيرفع راس كل واحد و لما يلاقيه مش اللي بيدور عليه, يروح ضربه على دماغه مطاطيها في الأرض تاني. وبعد ما خلص رايح مزعق وقال " علم إيه ده اللي عايزينه ينزل يا خولات الثوره, دانتوا لباسكم هو اللي هينزل, طول ما احنا واقفين هنا مفيش أعلام هتنزل, سامعين!!"

- في طريقي للبيت لم اتمالك نفسي من شدة الإهانات اللي اتعرضنالها خصوصا من ضباط وعساكر الجيش, بكيت وأنا باحكي لسواق التاكسي وهو بدوره من كتر ما ماكانش مصدق قعد يعيط طول الطريق".


أذكر انني عندما كنت أنقل هذا الكلام من شهادة محمد عفت لبعض الأصدقاء كان يأتيني ردا سريعا مصحوبا بعلامات التعجب على وجوههم "ظباط جيش و لا شرطة؟؟ ظباط جيش قالوا كدة؟؟". تنم هذه الواقعة عن شيئين: احتقار و ازدراء شديد من قطاع كبير من ضباط الجيش للثورة, و الشيء الاخر و هو فى اعتقادى فكر شديد الرسوخ و الانتشار فى المؤسسة العسكرية هو احتقار و كراهية للقضية الفلسطينية او على الاقل لامبالاة و افتقار للتعاطف مع الشعب الفلسطينى. هناك نسبة ليست صغيرة من الشعب المصرى تعتقد ان التعاطف (حتى و لو بشكل رمزى) مع الشعب الفلسطينى هو ترف لا نملكه حاليا (او فى أى وقت, فتعريف حاليا بالنسبة للهؤلاء يتمدد لانهائيا مثلما يتمدد الكون)--و دى واحدة من الترك التقيلة الى يصب التعامل معاها الى سايبهلنا مبارك--و اذكر ان بعد احداث السفارة دار جدلً دار بينى و بين واحد من اصدقائى حاول اقناعى (مستدلا ببعض فيديوهات البروبجاندا) أن عقيدة القوات المسلحة المصرية التى لا تهتز هي الانتصار للقضية الفلسطينية, لكن الحقيقة التى تظهر ليس فقط فيما قيل للشباب اثناء اعتقالهم و لكن فى اى حديث مع فرد من أفراد القوات المسلحة حول هذا الموضوع هى ان عقيدة الجيش هى المقاومة لإسرائيل بدون وجود اى ارتباط بين هذه الفكرة و الانتصار للمقاومة الفلسطينية, فقد وجدت ان الكثير من أفراد القوات المسلحة ينظرون بنظرة متساوية من الشك و عدم الثقة للإسرائيليين و الفلسطينيين (و هى عموما فكرة نجح نظام مبارك فى زرعها في عقول نسبة ليست صغيرة من الشعب المصري).


ثم أعود لاتطرق الى محاوراتي مع زملائي من الضباط المصريين فى بعثة حفظ السلام فالبعض منهم—و بالمناسبة اغلبهم من الضباط صغيرى السن من رتبة نقيب او رائد, بالإضافة الى قلة من رتبة مقدم—قد يمتلك قدر من التعاطف مع الثورة و لكن عندهم نفس الشك الغريزي فى" شباب الثورة" و نوايا و انتماءات شباب الثورة, و فى مطالب الثورة خاصةً المتعلق منها بالديمقراطية و توسيع مساحة المشاركة السياسية. فهم محافظون فكريا بطبعهم كما انهم مدربون على الشك و نوع الوطنية التى تغذيه المؤسسة العسكرية يقوم على التشكيك فى اى شىء له صلة من قريب او بعيد حتى لو كانت مجرد صلة شكلية أو اسمية بتجارب "الخارج". فمثلا صديق مقرب لى و هو مهندس ظابط لاحظ ارتدائى لحظاظة فى يدى اليمنى—و هى بالمناسبة حظاظة يقوم بتوزيعها قسم العلاقات العامة فى البعثة التى نعمل بها سويا تحمل رسالة تشجع المواطنين على المشاركة الانتخابية و يرتديها الكثير من المدنيين بالبعثة, فسألنى:
-          ايه البتاعة الى انت لابسها على ايدك دى؟؟
-          اوعى تقولى انت كمان انى ماسونى! مانت عارف البتاعة دى بتاعة الانتخابات احنا الى بنوزعها عل الناس اصلا؟
-          طب نصيحة منى ليك اقلعها قبل ماترجع مصر
(المشكلة طبعا ان رغم انها حظاظة لا راحت و لاجت لكن انا من باب العند مٌصِّر على لبسها و متاكد انى فى يوم من الايام هلبس قضية جاسوسية بسببها او هتعلق أنا و أمثالي من حظاظاتنا في ميدان مصطفى محمود.)
ما علينا. صديقنا المذكور اعلاه من الضباط الذين لا يجدون حرجا فى ان يعلنوا تذمرهم على قيادات المجلس العسكرى رغم ولائه الصادق للمؤسسة العسكرية, و هو من المؤمنين بالثورة و لا يحرج من ان يقول لزملائنا فى البعثة من ضباط الشرطة (بينهم ضباط أمن دولة و مكافحة شغب) انهم سبب خراب البلد و "يستاهلوا اكتر من الى جرالهم". و كان له ايضا اقتراح فيه الكثير من الشطط و هو ان جهاز الشرطة يجب ان تتم تصفيته بالكامل و استبداله بادارة الشرطة العسكرية لفترة مؤقتة إلى أن يتم تخريج دفعات جديدة من ضباط الشرطة.  و لكن الطبع غلُّاب فهو مؤمن أن استمرار المظاهرات فوضى (و هو مايدفعنى للتعاطف قليلاً مع العسكريين في بعض الأحيان لأنهم ببساطة تربوا على فكرة ان التظاهر فوضى و لا يستطيع احدهم مهما حاول أن يجد قيم خلاقة او بناءة في التظاهر, حالة ميئوس منها) وهو ايضا مقتنع ان الثورة فشلت و ان التغيير مستحيل فى مصر "فخلينا قاعدين فى بيتنا بدل الفوضى دى". يقول لى ايضا هذا الصديق أن اغلب الضباط من سنه متذمرين و لكن دفاعهم عن القيادة السياسية للمجلس العسكري فى الفترة الانتقالية هو دفاع غريزي عن المؤسسة التى ينتمون إليها فى مواجهة اى نقد من الخارج (يعنى نقدر نقول دفاع قِبَلى). و هو مجرد رأيه فى الموضوع ومن الصعب بالنسبة لى ان اتأكد من دقته فقد وجدت ان على النقيض مما قال الكثير من الضباط يستميت فى الدفاع عن اى شيء تقوم به القوات المسلحة و قياداتها بطريقة تنم عن قناعة تامة ومن المنطقي أن هناك شيئا من التباين فى الآراء بين ابناء القوات المسلحة و هو امر طبيعى على كل حال مهما كان ترابط المؤسسة العسكرية فمنهم من هو مؤمن بالثورة و منهم أيضا قطاع كبير يحمل مشاعر احتقار و ضغينة للثورة و الثوار و يسهل إقناعه بأن من قاموا بها عملاء و مأجورين و الأغلب ان هذا القطاع الأخير يمثل الأغلبية و يفسر هذا سهولة السيطرة على أفكار العاملين بالقوات المسلح فهم منعزلين تماما فكريا و جسديا عن الواقع المعيشي لأغلب الشعب.
صديق اخر برتبة رائد من سلاح الدفاع الجوي كان قد عاد نهائيا الى مصر قبل رجوعي بقليل و تصادف تواجده في مصر أثناء الثورة في اجازة كما حدث معي بالضبط, وهو من عائلة عسكرية و المفروض أنه أكثر انفتاحا على العالم (مما لمست في تعاملاته مع الزملاء في بعثة حفظ السلام و من أرائه في بعض القضايا), و لكن موقفه من الثورة و من النظام القديم موقف يتسم بالميوعة فهو يدعي الايمان بالديقراطية, و لكن عندما كنا نتجادل مثلا في فض الجيش للمظهرات كان يسارع بالقاء اللوم على المتظاهرين و يلجأ لأقدم حيلة تستخدمها الأجهزة الأمنية القمعية في العالم و هي محاولة تصوير المتظاهرين على أنهم من مدمني المخدرات و الجنس و يقسم لى بأغلظ الايمان أنه يعلم عن ما لا أعلمه عنهم و أنه رأى ما لن أصدقه اذا رواه لي من تجاوزات (باعتبار أني من المتظاهرين المحترمين "النضاف"), و هو ماقد يصدقه بسهولة الكثير من الناس الذين لم يعتادوا على سماع هذه الحجج الكاربونية التى تستخدمها الشرطة أو الجيش لتبرير العنف. كما أنه مثل غيره--وهو المحسوب على "الشباب" صاحب الفكر التقدمي داخل الجيش (بموجب حصوله على فرق تدريبات بأمريكا و عمله في بعثات حفظ السلام)--مؤمن تماما بأن مصر مستهدفة و مخترقة و الكلام الفاضي الى بيرجعوه فوشنا عمال على بطال دة. من الحيل التي اعتاد اللجوء اليها أيضا هي محاولة تحويل طاقة الغضب في اتجاه الشرطة و الحديث بشئ من النوستالجيا عن عداوات وخناقات تاريخية بين الشرطة و الجيش (ويمتلك مخزون لا بأس به من الأساطير الحضرية عن ظباط صاعقة بيكسروا أقسام و أشياء من هذا القبيل), وهذه العداوة التاريخية ماهي الا مجرد خلاف في التكتيك و ليس في الاستراتيجية فالاثنان لهم نفس المصلحة في النهاية.

المهم ان كل هذا يجعلنا نعيد النظر فى علاقة المجلس و ظباط الجيش نفسهم بالثورة. فعندما نردد مقولة انه "لو كانت القوات المسلحة أطلقت النار على الشعب لآلت مصر لما آلت إليه ليبيا اليوم", هناك شيئان يجب ان نتذكرهما: اولا انه من واجب القوات المسلحة الا تطلق النار على مدنيين عزل ينتمون الى نفس البلد و هذا أمر مفروغ منه, و النقطة الأخرى انه لم تكن من مصلحة القوات المسلحة أصلا ان تتحول مصر الى ليبيا فاذا نظرنا بتمعن الى ليبيا, أدى هذا الى تفكك الجيش و انضمام بعضه للثوار و فقدان المصداقية على المستويين الدولى و المحلى و كل هذا لم يثنى الثوار من الاستمرار بل زادهم إصرارا و بالتالي فقدت القوات المسلحة كل شىء حاضرا و مستقبلا. لهذا السبب غلبت قيادات الجيش المصرى فى اعتقادي صوت العقل بعد أن قدرت ان إطلاق النار على المتظاهرين سيؤدى الى تداعيات سلبية للجميع بمن فيهم القوات المسلحة نفسها التي كانت بالضرورة ستفقد مصداقيتها و قدرتها على السيطرة الأمور., فعلت هذا حماية لنفسها لا للمتظاهرين فحياة الأفراد عند القوات المسلحة أبخس بكثير من ثمنه عند جهاز الشرطة.

بعد عرض هذه الخواطر من الصعب عدم الوصول الى هذا الاستنتاج: انه لا يمكن إسناد مهمة الانتقال الى ديمقراطية حقيقية توسع قيمة المشاركة السياسية إلى العسكريين و انه كان لابد أن نتوقع اذا أسندنا هذه المهمة اليهم  ان تأتى النتائج مغايرة لطموحاتنا و هذا ليس تقليلا من وطنيتهم و لا علاقة له بالوطنية أساسا فالوطنية خارج الموضوع (يعني هو جوزيف ستالين ماكانش وطني؟), والوطنية التى يتربي عليها العسكر أصلا تقوم على فكرة أن شيء و كل شيء بما فيه المواطنين أنفسهم قابل للتضحية (والتنكيل) به من أجل حماية "الدولة") و لكنه نتيجة اختلاف فى الرؤية ناتج عن اختلاف فلسفة المؤسسة العسكرية فى الإدارة. بالنسبة الى المجلس العسكرى فهو يريد ان تعود الامور الى مجاريها ومن السخافة ان اطلب من ضباط الجيش ان يقوموا بتغيير فلسفة المؤسسة العسكرية—فهذا اكثر مما يطيقون حتى الصغار و الشباب منهم, و لكن من السخافة و البلاهة أيضا ان يطلب بعض الناس اننا نقعد نتفرج و نثق ثقة عمياء فى إدارة القوات المسلحة للفترة الانتقالية. و من السخافة ايضا ان نتعرض للاتهام بمحاولة اثارة الفتنة كلما حاولنا التفكير بصوت عالي! التمرد و التظاهر أفكار مكروهة بالنسبة لمن تربى فى المؤسسة العسكرية, و الوصف الادق لموقف المجلس العسكري من الثورة هو ما كتبه عمر طاهر "الجيش لم يحم الثورة.. لأنه تعامل معها بطريقة «فض الخناقة»، ولم يتعامل مع روحها كما كنا نحلم جميعا". و ستستمر حالة الشد و الجذب اذا لان فى النهاية لن يصح الا الصحيح فى و لن يستطيع تحقيق مطالب الثورة الا المؤمنين بها فعلا. لن يستمر هذا لأنه ببساطة غير قابل للاستمرار.   

عن الأساطير المتعلقة بالقوات المسلحة—مجلسها و ظباطها—و موقفها من الثورة


أولا: مقدمة متحذلقة و لكن ضرورية

ماذا تفعل لو تلقيت  تعليمات بإطلاق النار على متظاهرين عزل من بنى وطنك؟


طرحت هذا السؤال على أكثر من واحد من زملائي العسكريين ببعثة حفظ السلام, من جنسيات مختلفة اغلبها من الدول النامية, و يعملون بأفرع و أسلحة مختلفة بالجيش من المشاة و المدرعات و القوات الجوية و الشرطة العسكرية و حتى الأفرع الفنية والهندسية. كان القاسم المشترك في الإجابة دائما هو استعداديه صادمة لاستخدام العنف القاتل اذا لزم الأمر (طبعا كان يتم تمييع الموقف بالاستناد الى صعوبة تحديد متى يلزم الأمر). و بما اننى تعايشت لفترة طويلة مع زملائي العسكريين الذين كانوا أصدقاء أكثر مما كانوا زملاء و حاولت بقدر الإمكان أن أتفهم هذا الموقف ممن يبدون لى بشر عاديين جدا إذا خلعوا البذلة العسكرية, خاصة في معسكر حفظ السلام الذي كنا نعيش به حيث تبدو الحياة شديدة الرتابة و فتجد الزملاء العسكريين يذهبون الى مكاتبهم أحيانا "بالشبشب" و ينتهون من أعمالهم المكتبية في الرابعة ثم يتناولون المكرونة على اعشاءو يشاهدون الأفلام المبتذلة فيغالبهم النعاس بحلول العاشرة, اللهم الا اذا أجبروا على المشاركة في دورية طويلة الأجل. و لهذا كان من الصعب بالنسبة لى أن اتصالح مع فكرة أن هؤلاء التعساء المساكين قد يتحمسوا بهذه السهولة لقتل مدنيين عزل من أبناء نفس الوطن, فكان الاستنتاج البديهي  أن العسكريين بصفة عامة مدربين على التعامل بالقوة--فنظرتهم للبشر هي نظرة قالبيه لا تعترف بالفردية أو التفرد و هذا من صميم فلسفة المؤسسة العسكرية لان أمور الحرب و الدفاع لا مجال فيها للاعتبارات الفردية التي قد تفتح الطريق للتعاطف مع الخصم, أو هكذا قال لنا "الأقدمون" عن فكر المؤسسة العسكرية. بمعنى أن مواجهة الخصم تتطلب اختصاره في قالب واحد مبسط لا يعترف بالاختلاف او التنوع بالبشرى—و هو امر قد يكون ضروري فى بعض الأحيان, ففي أوقات الحرب و الاستنفار تقترب هذه الرؤية كثيرا من الحقيقة حيث تذوب الفروق البشرية في فكرة أو قيمة واحدة و هو ما يجعل ملايين البشر "على قلب رجل واحد" ولكنه أمر له تداعيات سلبية على النفس البشرية على المدى البعيد خاصة بالنسبة للذين شاركوا فى الحرب بدون أن يحصلوا على نفس التربية العسكرية من المتطوعين و المجندين. لا أجد ما يوضح هذا التباين الفكري أكثر من روايات فترة مابين الحربين العالميتين و ما بعد الحرب العالمية الثانية, التي جعلت أبطالها من بشر عاديين قاوموا هذه الفكرة و حاولوا التأكيد على فرديتهم في اثناء الحرب مثل "كل شىء هادئ على الجبهة الغربية" و "كاتش 22" و هى الروايات الى استحدثت مفهوم البطل الروائي الـ(anti-hero) المغاير للبطل الكلاسيكى في روايات الحروب, وهوالذى تقوم بطولاته على أساس انتصاراته و صولاته في ميادين القتال؛ ففى كاتش 22 على سبيل المثال بطل الرواية لا يطيق الحرب و لا يجد سبب مقنع لتورطه هو شخصيا فى الصراع المسلح مع قوات المحور و تدور الرواية حول محاولاته المستمرة للهروب من المعركة و الإفلات من المواجهات القتالية و هو يسخر بشكل دائم من مفاهيم الوطنية و الجندية و الشرف--و هو الشئ المميًِز لروايات تلك الحقبة, محاولة التأكيد على أن هناك في ميادين القتال من لازال ينظر للمعركة و للخصم نظرة مواطن طبيعي عايز يعيش. و بدون إطالة في التفلسف نعود لثقافة المؤسسة العسكرية التي تنتج نظرة مختلفة و متناقضة لنظرة المواطن العادي بالنسبة للجوء الى القوة و هذا أمر قد يكون مشروع بالنسبة للعسكريين, و لكنه يصبح محل جدل عندما تتدخل القوات المسلحة في الشؤون الداخلية للبلاد و هو التدخل الذي قد يتطور و يصل الى مواجهة مع أبناء البلد نفسه. هذا الاختلاف في الفكر و الأسلوب قد يفسر موقف ضباط الجيش من الثورة و الثوار و المتظاهرين بصفة عامة و يفند الأفكار التي يتمسك بها البعض عن موقف الجيش (بخلاف القيادات) من الثورة و قد يساعدنا على فهم أسلوب الجيش فى التعامل مع المتظاهرين.  الشيء الأخر الذى يصعب ألا نتفق عليه هو أن المؤسسة العسكرية تعلى قيم الانضباط و الاستقرار و الالتزام على أى قيم أخرى مثل القيم التي قامت الثورة في مصر من اجلها و هى الحرية و العدالة. و هذا أيضا مكون رئيسى من سيكولوجية المؤسسات العسكرية فى كل دول العالم و ليس فى مصر فقط--و يبدو أن الكثير من المصريين لم يلحظ (أو نسى أة تناسى) أنه عندما   أطلق اللواء محسن الفنجري تحيته التليفيزونية للشهداء ذكرهم على أنهم من ضحوا بحياتهم "من أجل أمن و استقرار مصر" (عمرك سمعت عن واحد بيثور و يضحي بحياته من أجل الاستقرار؟), و هو ما بدا لي رفضً مقصود (أو قد يكون غريزي) من المجلس العسكري للاعتراف بأهداف الثورة المتمثلة في الحرية و العدالة. فلنتفق أيضا أن مركزية القرار في المؤسسة  العسكرية و هيراركية النظام تخلق ولاء مطلق بين الجنود والضباط للقيادة المركزية. فالكثير من الناس يتحدث عن وجود فجوة في الثقافة السياسية ما بين قيادات المجلس الأعلى للقوات المسلحة و الضباط الميدانيين, و رغم انى اعتقد أن هذا صحيح إلى حد كبير و لكنه لا يعنى بالضرورة  تعاطف الضباط من ذوى الرتب الصغيرة و المتوسطة مع الثورة أو الثوار أو مبادئ الثورة.  

ما أحاول الوصول إليه هو أننا حمِّلنا العسكريين اكثر مما يطيقون عندما ظننا أنهم قد ينحازوا الى قيم الثورة فهي منافية لطبيعة عملهم و تربيتهم العسكرية, و هذا الكلام ينخلع أيضا على نسبة كبيرة من الضباط صغيري السن و الجنود بالرغم من أنهم بطبيعة الحال اقرب إلى الشارع و الى المواطن العادى من المجلس الأعلى ولكنهم أيضا يحملون الولاء لقيادتهم و للسلطة المركزية و للرئيس (المخلوع) نفسه. وسوف استدل على هذا عن طريق استعراض خبراتي الشخصية مع الضباط الذين عملت معهم لمدة عام فى البعثة و ما لمسته من آراء الضباط الشخصية أثناء المحادثات العامة التى كانت تدور بالميدان و أثناء اعتقالي قبل التنحي لمدة ليلة قضيتها فى الجدال السياسي مع ضباط فرقة المدرعات و الشرطة العسكرية, بالإضافة إلى كل ما وصل إلينا من خبرات و شهادات عن تعامل الضباط مع المتظاهرين في فترة ما بعد الثورة إثناء فض الاعتصامات المتتالية فى الميدان و فض مظاهرة إحياء ذكرى النكبة عند السفارة الإسرائيلية.

ثانيا: دردشة مع الضباط

اول الإحتكاكات كان بتاريخ 3 فبراير (بعد موقعة الجمل بيوم واحد) عندما تم اعتقالي أنا و اثنين من اصدقائى أثناء سيرنا فى مدخل عمر مكرم المؤدى للتحرير متوجهين الى جاردن  سيتي. قام بعض من شباب اللجان الشعبية مشكورين بتسليمنا الى الشرطة العسكرية التى اعتقلتنا بحجة خرق حظر التجول و التقاط صور لمدرعات عسكرية (مجرد حجة لتوفير سند قانونى للإعتقال لكن فى اليوم ده كان فى حملة اعتقالات عشوائية موسعة حوالين الميدان) و كان هذا هو أول اصطدام لنا بموقف الضباط الحقيقى من الثوار على الأقل أثناء الثورة نفسها و بعد يوم من موقعة الجمل التى دفعت الكثير للتساؤل عن موقف الجيش بصفة عامة من المتظاهرين و من الثورة (لاحظ ان دول كانوا الكام يوم الي انتشرت فيهم اشاعات المؤامرة الايرانية الصهيونية الدولية والكلام عن التدريب في "فريضم هاوس", و أنه في الأيام دي كان شباب اللجان الشعبية المحيطة بالتحرير بيبقضوا على اى حد شاكله من شباب التحرير على انه جاسوس و يسلموه للجيش, تنفيذا لتعليمات الجنرال الملحن عمرو مصطفى). بعد توقيفنا دار حديث على قدر لم أتوقعه من الحدة بيننا و بين ضابط الشرطة العسكرية الذي قام" بتأفيزنا" و تسليمنا لفرقة مدرعات كانوا قد اتخذوا من كشك ألوميتال فى أول شارع القصر العينى مقرا لهم, في مقابل اللوحة الشهيرة التي تحمل عبارة "الديمقراطية توكيد لسيادة الشعوب" و التي تفضل قوات الأمن في مصر أن تنتهك حقوق المواطنين أسفلها. استمر الحوار مع الضباط  و لم يقطعه إلا تحقيق قصير من ضابط مخابرات عامة برتبة عميد.
1-      دخل الضباط فى جدال حول جدوى الاستمرار فى الاعتصام و التظاهر, و كان بعضهم على قدر  من الثقافة و الخطابة خاصة قائد الفرقة, ولم يحاولوا الدفاع عن النظام و إنما قاموا بالتركيز على نقطة إنهاء حالة الفوضى و الصبر على الرئيس إلى أن يأتينا شهر سبتمبر. و رغم ان كلام الضباط كان يوحى بثقافة لا بأس بها إلا أن أرائهم كانت مطعمة بقدر عظيم من الشك و ببعض نظريات المؤامرة التي لا تستطيع ان تصمد فى وجه المنطق أكثر من خمس دقائق. فمثلا احدهم اقسم لي إنهم قاموا بالقبض على إسرائيليين في شقة بالقرب من التحرير و وجدوا بحوزتهم أسلحة آلية! أثناء الحديث الذي استمر منذ الليل حتى ظهر اليوم التالى (فى انتظار ضابط مخابرات اخر جاء للتحقيق معنا ثم تقرير مصيرنا) حاول قائد الفرقة ان يقنعنا—و كان يتحدث بأدب و لباقة و يسمح لنا بالدفاع عن آرائنا—بنظرية أننا شباب شريف و لكن مغرر به و غير مدرك للأصابع الخفية التى تحركنا و تسعى لخراب مصر. و لم يتوقف الكلام عن البلطجية الذين قبض عليهم فى التحربر و بحوزتهم اسلحة بيضاء—و عندما كنا نعترض و نقول "يا جدعان فين البلطجية دول ماحنا عاملين لجان شعبية مكثفة بتطلع عين الواحد الى بيفكر حتى يخش" كان ردهم انهم متأكدين من ذلك لانهم قبضوا بالفعل على العشرات من البلطجية "بس احنا مش عارفين حاجة". أذكر أيضا مكالمة تليفونية لأحد الضباط الذين لم يشاركوا فى حديثنا الودي مع الضباط الآخرين طولها خمس ثوانى بالضبط كان مفادها الاتى:
"ايه؟ واحد افغانى عند ابو شقرة؟ هاتهولى حالاً"
و طبعا الخاطر الوحيد الذى دار بذهنى وقتها هو "افغانى ايه الى عند ابو شقرة ده والنبى؟" - و لم أعرف حتى اليوم ان كان هذا الظابط و غيره مصدقين فعلا لهذه النظريات التآمرية الطفولية ام أنها كانت مجرد  محاولة للضغط النفسى على المعتقلين الموجودين بالغرفة
دار أيضا حديث سريع بيننا و بين احد المجندين خريج آداب قسم فلسفة حدثنا عن عشقه للفلسفة و استعرض علينا اسماء بعض الفلاسفة الغربيين الذين قرأ لهم (عشان يثبتلنا يعنى انه يهوى الفلسفة بجد مش مجرد واحد ماجابش مجموع و خرج من الكلية زى ما دخلها), و عندما تطرقنا الى الحديث عن المظاهرات و الاعتصام صدمنا بقوله "و الله العظيم انا مستنى بس الاوامر عشان اخش اموت الناس دى كلها"—و قد حرص على استخدام تعبير "اموت" لكى يؤكد لنا انه—عاشق الفلسفة الذى كان يحدثنا عن نيتشه قبل خمس دقائق—لا يجد اى وازع أخلاقي يحول دون استخدام القتل و ليس مجرد العنف لفض الاعتصام! استمرت هذه الأحاديث متقطعة إلى أن جاءنا ضابط من المخابرات العامة للتحقيق فى اليوم الثاني ثم قامت المخابرات العسكرية بنقلنا (او من اعتقد انهم من المخابرات العسكرية, طبعا لم يقوموا بتعريف نفسهم كما ان عيوننا كانت قد تم تعصيبها قبل البدء فى عملية النقل, ولكن افترضنا انهم من المخابرات العسكرية على اساس ان ضباط فرقة المدرعات كانوا بيهزروا معانا هزار تقيل شوية لما كنا بنسال احنا مصيرنا ايه و يقولوا "الموضوع بتاعكوا مش فى ايدينا انتم هتروحوا لحاجة من اتنين يا اما "مخ" يا اما "مع" الى هما بعد كده عرفنا انهم مخابرات عامة و مخابرات عسكرية رغم أني لحد النهاردة مارفتش مين فيهم الى بيتقال عليه مخ و مين مع) و تم نقلنا فى ميكروباص ابيض مع مجموعة أخرى من المقبوض عليهم الى أن تم إطلاق سراحنا أنا و اصدقائى دونا عن باقي المعتقلين في صلاح سالم. و بعد تنحى مبارك بيوم واحد توجهت الى النقطة نفسها حيث كنا معتقلين لألقى السلام على الضباط ووجدت اثنين منهم و لم اجد قائد الفرقة و تلقونى  ساعتها بالأحضان و القبلات, و رغم ذلك و رغم أنى طبعا حيت الضباط دول لأنهم عاملوني بكرم (خصوصا مقارنة بالمعتقلين الاخرين الي كانوا بيتضربوا من باب التسلية من ظابط صاعقة ماكانش مشارك في الحوار و لا في التحفظ علينا), الا اننى متأكد انهم لم يثقوا فينا ومازالوا معتقدين ان شباب الثورة شباب منفلت مغرر به خرب البلد.(يتبع)