الأربعاء، 22 فبراير 2012

الثورة لا تفنى ولا تستحدث من عدم: تصحيح للمفاهيم


كتبت التدوينة دي عشان كلمة "مزايدة" و "تعالي"  بقوا أسهل حاجة على لسان أي واحد مش عاجبه كلامنا, و بالذات عشان  عمرو الشوبكي ومن هم على شاكلته من الأكاديميين المتخصصين في إصدار الأحكام بالجملة من وراء دخان الغلايين والمتفرغين للبكاء والعويل على الثورة التي تخلت عن أخلاق المائدة. لقد أصبحنا ذات يومٍ على قطاع كبير من المحللين والمفكرين من أصحاب التوجهات الشعبوية والذين يُخضعون تحليلاتهم وكتاباتهم ومعاييرهم الأخلاقية لقواعد السوق التنافسية تماما مثل أفلام السبكي. ومن المحتمل أنهم يصدرون تلك الأحكام والتحليلات بحسن نية, ولعل سبب اشمئزازهم من الثورة وتصرفات الثوار والذي يدفعهم إلى تقسيم الناس إلى ثوار حقيقيون وبلطجية يكمن في اختلاط بعض المفاهيم عندهم, هذا الاختلاط الذي نتج عن خطاب سياسي نجح على مدار سنة كاملة في إعادة توصيف الثورة حتى ترسخ في أذهان الناس مفهوم جديد للثورة يصورها على أنها حديقة حيوان يسمح فيها "للثوار" بممارسة نشاطهم في أماكن مغلقة وفي أوقات محددة للزيارة بطريقة تضمن حق المتفرجين في الاستمتاع والانبهار بما يفعله الثوار وبدون تعريض حياتهم أو مصالحهم للخطر. وفي هذه المقالة محاولة مني لتصحيح بعض المفاهيم المغلوطة, ولتوضيح الفرق بين الثورة والإصلاح السياسي.

مبدئيا...

كلمة "ثورة" في حد ذاتها تحمل أكثر من معني, وفيما يتعلق بسياق الحديث فتعريف المعجم الوسيط الضيق للمعني هو "ثَوَرَاناً، وثَوْراً، وثَوْرَةً: هَاجَ وانتَشَر - ثار به الشَّرُّ والغَضَبُ" أما المعنى الأوسع وهو المعني المستخدم  في العلوم السياسية فتعريفه طبقا للمعجم الوسيط "" تغيير أساسي في الأوضاع السياسية والاجتماعية يقوم به الشعب في دولة مّا". بمعنى آخر, المفهوم الأوسع للثورة هو التغيير السياسي والاجتماعي الذي يحدث نتيجة "للفعل الثوري" (بالمعنى الضيق للكلمة). يبدو لي أن اهتمام الباحثين في العلوم السياسية عادة ما يقتصر على المعني الأوسع للكلمة عند التصدي لمهمة التحليل التاريخي لحالات الحراك الشعبي والسياسي: وعادة ما يجمع التحليل ذو الأثر الرجعي بين الحركات السياسية والاحتجاجية المنظمة وبين الحراك الشعبي الذي يتسم بالعفوية في قالب واحد. قد تتقاطع أهداف الفئتين في بعض لحظات الحراك وقد تصطدم ببعض في لحظات أخري ولكن في نهاية الأمر يبدو أن المحصل النهائي لأغلب الثورات هو أنه إما أن تنتصر الثورة فتحصل الحركات السياسية المنظمة المشاركة في الثورة على كل أو على جزء من السلطة وتفرض أجندتها السياسية والإجتماعية, تلك الأجندة التي تتطور مع مرور الوقت فتتحول في الكثير من الحالات إلى نظام سلطوي بشكل آخر ينتج حالة مجددة من السخط ومن الصراع الاجتماعي, فيضطر إصلاحيو الأمس للاصطدام بالقوى الشعبية لأنهم صاروا في موقع من يضطلع بالحفاظ على النظام. والاحتمال الآخر هو أن تنتصر القوى المتحكمة (النظام الحاكم أو أتباعه ومؤيديه أو ما تبقى منه أو أحد أذرعه الناجية من الموجة الثورية) فتعيد فرض أجندتها التي كانت قائمة. وفي كلا الحالتين تخرج الطبقات المسحوقة خاسرة من المعادلة (مع تحسن أو تدهور نسبي في أحوالها المعيشية) لأن الدولة الحديثة في نهاية الأمر بالرغم من كل محاولات الإصلاح وتوسيع المشاركة السياسية تقوم على احتكار السلطة والثروة لجزء من المجتمع (جزء يتمدد وينكمش أحيانا), ولهذا يظل الجزء المتبقى أو المهمش (كبر او صغر حجمه) في حالة تمرد شبه دائم وان كان متقطعأ ويصل الى ذروته في حالة الثورة . وبطبيعة الحال لا ترضي هذه الحالة من الثورة الدائمة السياسيين على اختلاف توجهاتهم—ديمقراطين كانوا أم سلطويين.

من الذي يؤرخ للثورة؟ السردية المفقودة

قلنا أن ذروة الزخم الاجتماعي تتقاطع فيها أهداف الثورة "الشعبية" الغريزية مع أهداف ووسائل الحركات الاحتجاجية السياسية, ولكن نجاح الثورة عادة ما يترجم الى نجاح لتلك الحركات, والفائز في جميع الحالات هو من يكتب التاريخ  ويؤرخ للأحداث, وقد نجد أكثر من سردية تعكس وجهات النظر المختلفة عن تطور الأحداث و لكن الأكثرية ممن أسهموا بالفعل الثوري فلا صوت لهم—يعملون في صمت ولا يملكون الاليات التى توصل وجهة نظرهم للعالم الخارجي من إعلام  وأحزاب وكتبة ومدونون, لذا فالتحليل ذو الأثر الرجعى قد يكون منصف أو مجحف لهم بناء على الظرف السياسي الذي نتج عن تحركهم الثوري وبناء على تصرفات الحركات السياسية التي تتفاعل مع هذا الظرف السياسي.

فعلى سبيل المثال فلنتناول ثورة 25 يناير: نجحت الحركة الاحتجاجية السياسية المنظمة في حشد أعداد كبيرة من الناس للتظاهر بميدان التحرير يوم 25 يناير, وبعد تفريق المظاهرة بدأ الفعل الثوري "الحقيقي" والذي اتسم بعفوية شديدة ولم يأتي تلبيا لنداء من حركة او من حزب, واستمر لعدة أيام ووصل لذروته يوم 28 يناير. وما حدث في هذا اليوم هو أن التحركات المنظمة والمتمثلة في المظاهرات السلمية المتوجهة لميدان التحرير تقاطعت مع التحركات العفوية الشعبية التي خرجت من كل فج عميق وتوجهت إلى أقرب مركز للسلطة—السلطة التي عادة ما يختزلها المواطن العادي في الشرطة—وتعدوا عليها وهو ما أدى في نهاية الأمر إلى احتراق ما يقدر بـ119 قسم شرطة بصورة كلية و جزئيه (في أحد التقديرات الرسمية) وعدد أقل من أبنية أجهزة الدولة الأخرى (محكمة الجلاء, بعض مقرات الحزب الوطني الخ). ولولا هذا التحرك الشعبي العفوي الأقرب للثورة, ما نجحت الحركات السياسية الاحتجاجية في طرح أجندتها السياسية على طاولة المفاوضات (ولو بصورة مؤقتة قبل أن ينجح النظام في إعادة تنظيم صفوفه وفرض أجندته السياسية مرة أخرى بالتحايل وبالقوة). ولكن من الذي أرخ لهذه الأحداث؟ الحركات السياسية المنتمية إلى الطبقة الوسطى أقرَّت في سردها للأحداث ان الثورة هي حركة شعبية موحدة على هدف واحد وتتبع تكتيك واحد وهو التظاهر السلمي في ميدان التحرير, وتعترف ببطولة من استشهدوا خارج الأقسام ولكنها اعتبرتهم متظاهرين سلميين تعرضوا لاعتداء خارج الأقسام فردوا دفاعا عن النفس فقط, وهذا السرد فيه شيء من الحقيقة والكثير من الوهم.

أما النظام الذي ترنح ولم يسقط فله رواية أخرى يرى فيه ان كل من استشهدوا خارج الأقسام هم من البلطجية و مسجلي الخطر الذين حاولوا استغلال حالة الاختلال الأمني الذي سببته المظاهرات لكي يسطوا على مخازن الأسلحة ويحرروا اخوانهم البلطجية, ولا علاقة لهم بحق أو بمطالب ولا هم أصحاب حقوق مسلوبة, ويتجاهل تاريخ قهر السلطة لهذه الجموع الشعبية التي تتكون أغلبها من الطبقات الفقيرة التي عانت لعقود طويلة من السلطة بشكل عام ومن طبقية ذراعها الأمني تحديدا. أما عن هذا السرد فكله افتراء ولا يقترب حتى من الحقيقة. ولكن الأهم من هذا وذاك هو أن القوى الثورية الحقيقية الغير منظمة لم تطرح سردها للأحداث ولعله لا يعنيها من الأساس. وبدأت عملية تزييف التاريخ عندما اتفق السردين السابق ذكرهما على أن الثورة بدأت يوم 25 يناير مع أن ما حدث يوم 25 يناير لم يكن فعلا ثوريا وإن ساهم في إطلاق شرارة الفعل الثوري الذي لحق.

النسخة المُنقَّحة من ثورة 1919

يستشهد إصلاحيو هذه الأيام (عمرو الشوبكي ومن هم على شاكلته) بأمثلة تاريخية لا يعرفون عنها إلا القشور.ولنتناول ثورة 1919 مثلا: يعتقد أغلب المصريون أن ثورة 1919 لم تكن إلا تراكم من الاحتجاجات والمظاهرات السلمية المنظمة من الوفديين والكتل الشعبية المؤيدة لهم التي ساعدت على اجبار المستعمر البريطاني على التفاوض والتنازل, وهو ما وصل لنا عنها في النسخة الرسمية من الأحداث التي قامت السلطة بارضاعها لنا منذ الصغر في الكتب المدرسية والمسلسلات التلفزيونية. والحقيقة أن ثورة 1919 قتل فيها ما يقرب من 3000 شخص وحرق فيها الكثير من القرى  ودُمِرت فيها المنشآت العامة والخاصة وقطعت الطرق والسكك الحديدية وتعرضت البنية التحتية فيها لتدمير منظم (فقام عمال السكك الحديدية بإتلاف محولات حركة القطارات على سبيل المثال), وهاجم الاهالي أقسام الشرطة وأطلقوا سراح المساجين كما تعرضت المنشآت البريطانية تحديدا لكثير من العنف الموجه خاصة في الصعيد وفي الريف واتسمت الثورة في بعض مراحلها بالعنف الشديد وتعرض الكثير من الأجانب (المدنيين المقيمين بمصر) لعنف في الشوارع وكذا موظفين الدولة من المصريين, ولم تفرق الثورة حينذاك بين رجل الدولة المصري والبريطاني فكلاهما كان خادما للظلم وللاستعمار وكلاهما كان ممثلا للسلطة.

لا أفهم لماذا يندهش البعض من الشعب الذي يدمر المنشآت العامة عندما يشعر انها لم تعد ملكه ولم تعد تخدمه, فالفطرة السليمة تدفع الإنسان في لحظات الذروة الثورية في اتجاه مهاجمة كل ما هو يرمز للسلطة القمعية, ولا يفكر حينها أن "الحاجات دي من فلوسنا وبتاعتنا" لأنها على ارض الواقع ليست كذلك. الدولة بأفرادها وقوانينها ومبانيها ليست من المقدسات ولا المنزلات, وعندما تتحول هذه الكيانات إلى سيف مسلط على رقاب الناس تسقط تلك المفاهيم التجريدية ولا يتمسك بها او بأجزاء منها إلا من كان يملك شيئا يخشى عليه, او  بمعنى اخر من يملك مصلحة بصورة مباشرة او غير مباشرة في بقاء الوضع على ما هو عليه أو في تجنب الصدام المباشر.

الي عمرو الشوبكي وكل من يحلمون بثورة تستطيع ان تحقق المعادلة المستحيلة بإسقاط النظام مع الحفاظ على آداب المائدة والسيولة المرورية في الشوارع: ان فهمكم للثورة  شديد السذاجة والتسطيح. الثورة لا يمكن أن تختزل في مظاهرات ومسيرات يوم الجمعة, الثورة هو كل فعل يحتوى على العصيان والتمرد على الطغيان—كل أشكال الطغيان بما فيها الطغيان الكامن في البنية الاجتماعية—وهي ظاهرة اجتماعية قبل أن تكون سياسية وقد تفشت  بالفعل في جميع أنحاء مصر منذ يناير الماضي ولكنكم لا تهتمون إلا بما يحدث في محيط منازلكم. اذا حاول أحدكم أن يتغلب على هذه النزعة المركزية في التحليل وتأمل أحد اوجه الثورة المتمثلة, مثلا, فيما حدث عندما اعتصم بدو مطروح خارج مبنى المحطة النووية بالضبعة مطالبين بحقوقهم المسلوبة منذ عام 2003, ثم تمردوا في منتصف شهر يناير 2012 وطردوا قوات الجيش والشرطة المكلفة بحماية الموقع المخصص للمحطة النووية "واحتلوا" ارضهم المستولى عليها رسميا منذ 1981, ليجدوا ان عقداً كاملا  من الكلام الذي نحفظه في كتب القراءة المدرسية عن المشاريع النهضوية التي ستنقل مصر الى عصر الطاقة النووية (الذي أوشك أصلا على الاندثار) تمخض فقط عن ازالة الآلاف من اشجار الزيتون والتين والعنب وبناء شاليهات مصيفيه للعاملين بهيئة الطاقة الذرية مكانها. اتذكر اتصال تليفوني على أحد الفضائيات مع واحدا من بدو مطروح الذين اتُهموا بالتعدي على أراضي الدولة, وُجِه له سؤال عن مطالبهم فرد قائلا "لم يعد لنا مطالب بعد أن رأينا ما حدث لأرضنا وحقيقة المشروع القومي المزعوم. لقد استعدنا ارضنا ولن تؤخذ مننا مرة أخرى". هكذا قال—بمنتهى الصفاقة. نعم يا حضرة النائب الثائ-ولكن-بشروط هي صفاقة, نعم تعدوا على "رجل أمن أثناء أداء عمله", كما فعلوا يوم 28 يناير, فالفعل الثوري لا يعترف بالأطر القانونية التي فقدت معناها وشرعيتها. الثورة مطالبها تتعلق بالحقوق وليس باستبدال الأطر القانونية والسياسية القائمة بأطر أخرى "أكثر وجاهة".


عن الصراع الاجتماعي وثورة 1848 وعن اليأس الذي لايقهر

لا يفهم أصحاب هذه النزعة أحادية البعد في التحليل أن الثورة لا تبحث عن شرعية تستمدها من تأييد من أغلبية أو أقلية, ولا هي تبحث عن الحلول التوافقية ولا تقف لتراجع نفسها, هي "تحدث" فقط بلا مقدمات وبدون حساب للعواقب—وليس هذا تعاليا من الثورة ولكنه طبيعة الحالة الثورية. وتستمر الثورة ويظهر الصدع في المجتمع الذي ربما تآلف على شيء ما في لحظة مثالية ثم تفرق عندما تعارضت المصالح, والسياسيون من أمثال الشوبكي يتجاهلون في الكثير من الأحيان التباين الاجتماعي والاقتصادي الواسع الذي يخلق مصالح متضاربة داخل المجتمع نفسه وليس فقط بين المجتمع و النظام.

يدعي عمرو الشوبكي قلقه على أصحاب المحال وسكان منطقة عابدين ويتهم الثوار "بأسرِهم", وإذا تجاهلنا ما في هذا الاتهام من تحامل فادح على الضحية ومساواة حقيرة بين القتلة والمقتولين—اذا تجاهلنا هذا كله والتفتنا الى النقطة المتعلقة بالأثر الاقتصادي للثورة على الطبقة التي نجحت دون غيرها في انتزاع تعاطف الشوبكي, يدفعنا هذا للتساؤل: لماذا نميل الى تجاهل الطبقات التي هي اكثر فقرا من طبقة سكان وسط المدينة وأصحاب المحلات وسائقي التاكسي؟ فالأولى هي طبقة البورجوازيين الصغار,و الثانية هي خليط من الفئة الأقل حظا من بين طبقة العاملين بأجر, بالاضافة الى طبقة المسحوقين التي لا تملك أي شيء ولا صوت لها, تلك الطبقة التي لا تملك حتى ترف القلق على دخلها اليومي والتي لا تتأثر بالبروبجاندا ومحاولات التخويف الرسمية من تدهور الأوضاع الاقتصادية لأنها لا تشاهد التلفزيون أساسا—لا الرسمي ولا الخاص. هؤلاء يشكلون الأكثرية من المتمردين الذين يهاجمون وزارة الداخلية وأقسام الشرطة. فماذا عن هؤلاء الذي يدفعهم بؤس حياتهم لتلك الحلول القسرية يا دكتور عمرو—أليسوا أيضا من الشعب؟ أليسوا أسرى كذلك؟ وهل تعتبرهم من الثوار؟ أم انهم غير مستحقين لهذا اللقب بصفتهم غير منتمين لأيا من التنظيمات الشبابية ولا يجيدون الحديث بالمصطلحات السياسية؟ الثورة تبرز الانقسامات الاجتماعية التي كانت موجودة بالفعل ولكنها كانت في حالة احتواء مؤقت, وعندما تبرز تلك الانقسامات يصعب اعادة الوضع الى ما كان عليه فيما سبق بالحديث عن "الأيادي الواحدة" ومثالية الثورة المفقودة. ويزيد من حدة الانقسامات تمسك السلطة الحاكمة بمقاليد الحكم ومحاولة ابقاء الهيكل السلطوي الحاكم مع تبديل الوجوه والأفراد—تلك هي السلطة التي يدافع عنها الشوبكي بقصد أو بغير قصد, وهذا هو الانقسام الاجتماعي الذي لا يتطابق مع أفكاره الرومانسية عن الثورة المثالية, ولكنه أقرب في الحقيقة لما تكون الثورات عليه.

 يقول اليكسس دي توكفيل عن ثورة فبراير 1848 الفرنسية "انقسم المجتمع الى مجموعتين: من لا يملكون شيئا اتحدوا في سخطهم, ومن كانوا يملكون أي شيء اتحدوا في ذعرهم." وهذا هو تحديدا ما يحدث في مصر الان. فقد بدأت ثورة فبراير بمشاركة من فئات مختلفة من المجتمع الفرنسي, من الجمهوريين والملكيين وصغار البرجوازيون وأصحاب المصانع والعمال والفلاحين, وبعد هروب الملك وتعاقب الحكومات المؤقتة بدأت المصالح تتعارض, وانفصلت مسالك الطبقة الوسطى والطبقات الكادحة, فالطبقة الوسطى لم ترض باستمرار الصراع الاجتماعي ولا بمطالب العمال في الحق في العمل والتي دفع فاتورتها ملاك الأراضي والفلاحين—وعندما تجددت المظاهرات والاشتباكات في يونيو 1848 تحالف صغار البورجوازيين مع الجيش والحرس الوطني ضد استمرار الثورة وقتل من المتمردين (من الفئات الأكثر بؤسا في المجتمع) ما يقرب من 10,000 شخص.

ان الثورة كالفيضان الذي يأكل الاخضر واليابس, ولا تملك الدولة أن تطلب من الفيضان أن يحول من طاقة الهدم التي يمتلكها الى طاقة بناء! والفيضان لا يحدث من عدم ولا يحدث نتيجة أن النهر الذي يفيض عنده حالة فراغ ومش لاقي حاجة مفيدة يعملها بوقته, وإنما نتيجة لتراكم أسباب مناخية وجيولوجية وبيئية  معقدة لن تزول ولن تختفي لمجرد أن البعض يريدون زوالها. ولا تملك السلطة الا محاولة احتواء الفيضان, وهذا هو الفرق بين الفعل السياسي—أي فعل سياسي—والفعل الثوري. نادرا ما يتلاقيان في المصلحة, بل هما بالتعريف متضادان. ولا يملك اي شخص—من المنتمين الى الحركات السياسية المحسوبة على الثورة أو من الأشخاص المتعاطفين مع الثورة او أي واحد غلبان زي بيتكلم كتير عن الثورة—أن يحرك الثورة في اتجاه ما, او يعيد النظر في "تكتيكات" الثورة. لأن الثورة في الأساس هي الفعل العفوي الناتج عن اليأس, وهذا هو الفرق بين مطالب العمال بالحقوق الأساسية وعنف الطبقات المهمشة ضد رجال الشرطة و بين مطالب الفئات الأوفر حظا السياسية—الأول والثاني يحركهما اليأس والثالث يحركه الحلم, واليأس أكثر صلابة وصمودا من الحلم. واليائسون غير قابلين للسيطرة ولن يسمحوا لاحد بالسيطرة عليهم—فمن العبث ان تحاول ان تخلق لثورتهم ميثاق شرف او أن تملي شروطك عليها--الثورة لاقبل لها بمحاضراتكم فلا تحملوها ما لا طاقة لها به.