الثلاثاء، 12 يوليو 2011

عن الأساطير المتعلقة بالقوات المسلحة—مجلسها و ظباطها—و موقفها من الثورة (تكملة لما سبق):


2-      لم اتوقف عن التفكير فى موقف ظباط الجيش الحقيقى الكامن فى النفوس (بخلاف الموقف العملى الذي أملته عليهم الظروف) من الثورة و التظاهرات الاحتجاجية بصفة عامة. و الشهور الأولى فيما بعد الثورة شهدت جدلا شعبيا واسعا حول هذه القضية. فعندما كانت تحدث تجاوزات من قبل الشرطة العسكرية مثلا كان البعض يتفنن فى ايجاد مبررات لتلك التجاوزات لا تتعارض مع فكرة "انحياز الجيش للثورة" (بخلاف الذين اصروا على انكار حدوث اى تجاوزات من الاساس دول عمي البصر و البصيرة فهنتجهالهم), و كنا دائما نجد ما يضحد هذه الفكرة فى تفاصيل هذه الوقائع  و التى كانت تعكس طريقة تفكير المنتمين إلى المؤسسة العسكرية, فعلى سبيل المثال كانت هذه شهادة احد الذين اعتقلوا يوم 26 فبراير:

"الأخطر من الضرب و السب الكلام الغير مسؤول اللي كان بيردده الضباط و الأفراد إللي كانوا بيضربونا. أول ما دخلت لاحظت إنهم مركزين معانا على أسطوانة الخونة و العملاء فكان ضابط بيقول لشاب بيضربه “بتاخد 50 يورو يا روح أمك علشان تشتم في الرئيس مبارك” و طبعا نفس الكلام إتقالنا كلنا. و برضه كانوا بيقولوا لواحد واحد مننا قول “يعيش حسني مبارك” و إللي مايقولش يضربوه من الأول. كان واضح تماما إن التعامل كان مش على أساس إننا بلطجية بل مأجورين لزعزة أمن الوطن.."


و بالمناسبة صاحب المدونة سجل هذه الشهادة فى تدوينة عنوانها "الجيش و الشعب يد واحدة ولكن عقل و فكر مختلفين فهل يستقيم الجسد؟" و كان وقتها من رأيه ان هذه مجرد تجاوزات استثنائية.

3-      توالت الاحداث فجاءتا واقعتى 9 مارس و 8 ابريل و سمعنا و قرئنا عن معاملة مشابهه تعكس ماهو اكثر من قسوة اعتيادية (من ضمن الحجج التى كانت تساق لتبرير عنف الجيش انهم لم يتم تدريبهم الا على التعامل بأعلى درجات العنف "مايعرفوش غير كدة"),  و لكن تعامل مع المتظاهرين على انهم مأجورين و عملاء و خونة. و كانت إحداث سفارة اسرائيل يوم 15 مايو بمثابة "طشة مية" اجبرت الكثير على اعادة النظر فى هذه النظرة الرومانسية لضباط الجيش--بما فيهم الصغار منهم, فاذا تأملنا بعض المقتطفات من شهادة محمد عفت احد المعتقلين الذى افرج عنه قبل ان يتم عرض الباقين على النيابة العسكرية:
-" المسافة مابين الشارع وناصية السفارة على الكورنيش كان شاددني من قفايا ضابط شرطة, والجيش مأمن وراهم. قعد يشتمنا ويضربنا في الطريق, قاللي "فلسطين إيه وخرا إيه, هو احنا لاقين ناكل يا ولاد الوسخة, عاملينلي فيها رجالة وعلى القدس رايحين. دانتوا شوية خولات, طب كس ام فلسطين على كسمكم""

- " وصلنا تحت كوبري الجامعة لقينا في انتظارنا حوالي 200 عسكري أمن مركزي, 10 عربيات أمن مركزي من بتوع الترحيلات, ضباط وعساكر جيش كتير.قعدونا صف جنب أحد العربيات مقرفصين على ركبنا, وشنا في الأرض وايدينا ورا راسنا, كانوا بيعاملونا ولا المجرمين أو أسرى الحرب, اللي يرفع وشه أو يحاول يعدل رجله حتى كانوا بينزلوا فيه تلطيش. كان الضرب و الاهانات شغالة عاطل على باطل"

- "ضابط جيش وقف وقعد يزعق "عاملين فيها رجالة يا شوية خولات, تعالوا اتفرجوا على الفرقة الرابعة اللي لسة داخلة الجيش من شواذ الثوره بتاعتكم. كل واحد بعد ما لبس الميري بقى يا عين أمه مش طايق, بيدور يكلم بابي أو مامي عشان يخرجوه, مش هم دول بتوع الثوره".

- فضلنا كده شوية, لحد ماجه ضابط جيش شكله كان رتبه كبيره معرفتش أحددها, ابتدى يبص في وشنا واحد واحد, تقريبا كان بيدور على حد معين. كان بيرفع راس كل واحد و لما يلاقيه مش اللي بيدور عليه, يروح ضربه على دماغه مطاطيها في الأرض تاني. وبعد ما خلص رايح مزعق وقال " علم إيه ده اللي عايزينه ينزل يا خولات الثوره, دانتوا لباسكم هو اللي هينزل, طول ما احنا واقفين هنا مفيش أعلام هتنزل, سامعين!!"

- في طريقي للبيت لم اتمالك نفسي من شدة الإهانات اللي اتعرضنالها خصوصا من ضباط وعساكر الجيش, بكيت وأنا باحكي لسواق التاكسي وهو بدوره من كتر ما ماكانش مصدق قعد يعيط طول الطريق".


أذكر انني عندما كنت أنقل هذا الكلام من شهادة محمد عفت لبعض الأصدقاء كان يأتيني ردا سريعا مصحوبا بعلامات التعجب على وجوههم "ظباط جيش و لا شرطة؟؟ ظباط جيش قالوا كدة؟؟". تنم هذه الواقعة عن شيئين: احتقار و ازدراء شديد من قطاع كبير من ضباط الجيش للثورة, و الشيء الاخر و هو فى اعتقادى فكر شديد الرسوخ و الانتشار فى المؤسسة العسكرية هو احتقار و كراهية للقضية الفلسطينية او على الاقل لامبالاة و افتقار للتعاطف مع الشعب الفلسطينى. هناك نسبة ليست صغيرة من الشعب المصرى تعتقد ان التعاطف (حتى و لو بشكل رمزى) مع الشعب الفلسطينى هو ترف لا نملكه حاليا (او فى أى وقت, فتعريف حاليا بالنسبة للهؤلاء يتمدد لانهائيا مثلما يتمدد الكون)--و دى واحدة من الترك التقيلة الى يصب التعامل معاها الى سايبهلنا مبارك--و اذكر ان بعد احداث السفارة دار جدلً دار بينى و بين واحد من اصدقائى حاول اقناعى (مستدلا ببعض فيديوهات البروبجاندا) أن عقيدة القوات المسلحة المصرية التى لا تهتز هي الانتصار للقضية الفلسطينية, لكن الحقيقة التى تظهر ليس فقط فيما قيل للشباب اثناء اعتقالهم و لكن فى اى حديث مع فرد من أفراد القوات المسلحة حول هذا الموضوع هى ان عقيدة الجيش هى المقاومة لإسرائيل بدون وجود اى ارتباط بين هذه الفكرة و الانتصار للمقاومة الفلسطينية, فقد وجدت ان الكثير من أفراد القوات المسلحة ينظرون بنظرة متساوية من الشك و عدم الثقة للإسرائيليين و الفلسطينيين (و هى عموما فكرة نجح نظام مبارك فى زرعها في عقول نسبة ليست صغيرة من الشعب المصري).


ثم أعود لاتطرق الى محاوراتي مع زملائي من الضباط المصريين فى بعثة حفظ السلام فالبعض منهم—و بالمناسبة اغلبهم من الضباط صغيرى السن من رتبة نقيب او رائد, بالإضافة الى قلة من رتبة مقدم—قد يمتلك قدر من التعاطف مع الثورة و لكن عندهم نفس الشك الغريزي فى" شباب الثورة" و نوايا و انتماءات شباب الثورة, و فى مطالب الثورة خاصةً المتعلق منها بالديمقراطية و توسيع مساحة المشاركة السياسية. فهم محافظون فكريا بطبعهم كما انهم مدربون على الشك و نوع الوطنية التى تغذيه المؤسسة العسكرية يقوم على التشكيك فى اى شىء له صلة من قريب او بعيد حتى لو كانت مجرد صلة شكلية أو اسمية بتجارب "الخارج". فمثلا صديق مقرب لى و هو مهندس ظابط لاحظ ارتدائى لحظاظة فى يدى اليمنى—و هى بالمناسبة حظاظة يقوم بتوزيعها قسم العلاقات العامة فى البعثة التى نعمل بها سويا تحمل رسالة تشجع المواطنين على المشاركة الانتخابية و يرتديها الكثير من المدنيين بالبعثة, فسألنى:
-          ايه البتاعة الى انت لابسها على ايدك دى؟؟
-          اوعى تقولى انت كمان انى ماسونى! مانت عارف البتاعة دى بتاعة الانتخابات احنا الى بنوزعها عل الناس اصلا؟
-          طب نصيحة منى ليك اقلعها قبل ماترجع مصر
(المشكلة طبعا ان رغم انها حظاظة لا راحت و لاجت لكن انا من باب العند مٌصِّر على لبسها و متاكد انى فى يوم من الايام هلبس قضية جاسوسية بسببها او هتعلق أنا و أمثالي من حظاظاتنا في ميدان مصطفى محمود.)
ما علينا. صديقنا المذكور اعلاه من الضباط الذين لا يجدون حرجا فى ان يعلنوا تذمرهم على قيادات المجلس العسكرى رغم ولائه الصادق للمؤسسة العسكرية, و هو من المؤمنين بالثورة و لا يحرج من ان يقول لزملائنا فى البعثة من ضباط الشرطة (بينهم ضباط أمن دولة و مكافحة شغب) انهم سبب خراب البلد و "يستاهلوا اكتر من الى جرالهم". و كان له ايضا اقتراح فيه الكثير من الشطط و هو ان جهاز الشرطة يجب ان تتم تصفيته بالكامل و استبداله بادارة الشرطة العسكرية لفترة مؤقتة إلى أن يتم تخريج دفعات جديدة من ضباط الشرطة.  و لكن الطبع غلُّاب فهو مؤمن أن استمرار المظاهرات فوضى (و هو مايدفعنى للتعاطف قليلاً مع العسكريين في بعض الأحيان لأنهم ببساطة تربوا على فكرة ان التظاهر فوضى و لا يستطيع احدهم مهما حاول أن يجد قيم خلاقة او بناءة في التظاهر, حالة ميئوس منها) وهو ايضا مقتنع ان الثورة فشلت و ان التغيير مستحيل فى مصر "فخلينا قاعدين فى بيتنا بدل الفوضى دى". يقول لى ايضا هذا الصديق أن اغلب الضباط من سنه متذمرين و لكن دفاعهم عن القيادة السياسية للمجلس العسكري فى الفترة الانتقالية هو دفاع غريزي عن المؤسسة التى ينتمون إليها فى مواجهة اى نقد من الخارج (يعنى نقدر نقول دفاع قِبَلى). و هو مجرد رأيه فى الموضوع ومن الصعب بالنسبة لى ان اتأكد من دقته فقد وجدت ان على النقيض مما قال الكثير من الضباط يستميت فى الدفاع عن اى شيء تقوم به القوات المسلحة و قياداتها بطريقة تنم عن قناعة تامة ومن المنطقي أن هناك شيئا من التباين فى الآراء بين ابناء القوات المسلحة و هو امر طبيعى على كل حال مهما كان ترابط المؤسسة العسكرية فمنهم من هو مؤمن بالثورة و منهم أيضا قطاع كبير يحمل مشاعر احتقار و ضغينة للثورة و الثوار و يسهل إقناعه بأن من قاموا بها عملاء و مأجورين و الأغلب ان هذا القطاع الأخير يمثل الأغلبية و يفسر هذا سهولة السيطرة على أفكار العاملين بالقوات المسلح فهم منعزلين تماما فكريا و جسديا عن الواقع المعيشي لأغلب الشعب.
صديق اخر برتبة رائد من سلاح الدفاع الجوي كان قد عاد نهائيا الى مصر قبل رجوعي بقليل و تصادف تواجده في مصر أثناء الثورة في اجازة كما حدث معي بالضبط, وهو من عائلة عسكرية و المفروض أنه أكثر انفتاحا على العالم (مما لمست في تعاملاته مع الزملاء في بعثة حفظ السلام و من أرائه في بعض القضايا), و لكن موقفه من الثورة و من النظام القديم موقف يتسم بالميوعة فهو يدعي الايمان بالديقراطية, و لكن عندما كنا نتجادل مثلا في فض الجيش للمظهرات كان يسارع بالقاء اللوم على المتظاهرين و يلجأ لأقدم حيلة تستخدمها الأجهزة الأمنية القمعية في العالم و هي محاولة تصوير المتظاهرين على أنهم من مدمني المخدرات و الجنس و يقسم لى بأغلظ الايمان أنه يعلم عن ما لا أعلمه عنهم و أنه رأى ما لن أصدقه اذا رواه لي من تجاوزات (باعتبار أني من المتظاهرين المحترمين "النضاف"), و هو ماقد يصدقه بسهولة الكثير من الناس الذين لم يعتادوا على سماع هذه الحجج الكاربونية التى تستخدمها الشرطة أو الجيش لتبرير العنف. كما أنه مثل غيره--وهو المحسوب على "الشباب" صاحب الفكر التقدمي داخل الجيش (بموجب حصوله على فرق تدريبات بأمريكا و عمله في بعثات حفظ السلام)--مؤمن تماما بأن مصر مستهدفة و مخترقة و الكلام الفاضي الى بيرجعوه فوشنا عمال على بطال دة. من الحيل التي اعتاد اللجوء اليها أيضا هي محاولة تحويل طاقة الغضب في اتجاه الشرطة و الحديث بشئ من النوستالجيا عن عداوات وخناقات تاريخية بين الشرطة و الجيش (ويمتلك مخزون لا بأس به من الأساطير الحضرية عن ظباط صاعقة بيكسروا أقسام و أشياء من هذا القبيل), وهذه العداوة التاريخية ماهي الا مجرد خلاف في التكتيك و ليس في الاستراتيجية فالاثنان لهم نفس المصلحة في النهاية.

المهم ان كل هذا يجعلنا نعيد النظر فى علاقة المجلس و ظباط الجيش نفسهم بالثورة. فعندما نردد مقولة انه "لو كانت القوات المسلحة أطلقت النار على الشعب لآلت مصر لما آلت إليه ليبيا اليوم", هناك شيئان يجب ان نتذكرهما: اولا انه من واجب القوات المسلحة الا تطلق النار على مدنيين عزل ينتمون الى نفس البلد و هذا أمر مفروغ منه, و النقطة الأخرى انه لم تكن من مصلحة القوات المسلحة أصلا ان تتحول مصر الى ليبيا فاذا نظرنا بتمعن الى ليبيا, أدى هذا الى تفكك الجيش و انضمام بعضه للثوار و فقدان المصداقية على المستويين الدولى و المحلى و كل هذا لم يثنى الثوار من الاستمرار بل زادهم إصرارا و بالتالي فقدت القوات المسلحة كل شىء حاضرا و مستقبلا. لهذا السبب غلبت قيادات الجيش المصرى فى اعتقادي صوت العقل بعد أن قدرت ان إطلاق النار على المتظاهرين سيؤدى الى تداعيات سلبية للجميع بمن فيهم القوات المسلحة نفسها التي كانت بالضرورة ستفقد مصداقيتها و قدرتها على السيطرة الأمور., فعلت هذا حماية لنفسها لا للمتظاهرين فحياة الأفراد عند القوات المسلحة أبخس بكثير من ثمنه عند جهاز الشرطة.

بعد عرض هذه الخواطر من الصعب عدم الوصول الى هذا الاستنتاج: انه لا يمكن إسناد مهمة الانتقال الى ديمقراطية حقيقية توسع قيمة المشاركة السياسية إلى العسكريين و انه كان لابد أن نتوقع اذا أسندنا هذه المهمة اليهم  ان تأتى النتائج مغايرة لطموحاتنا و هذا ليس تقليلا من وطنيتهم و لا علاقة له بالوطنية أساسا فالوطنية خارج الموضوع (يعني هو جوزيف ستالين ماكانش وطني؟), والوطنية التى يتربي عليها العسكر أصلا تقوم على فكرة أن شيء و كل شيء بما فيه المواطنين أنفسهم قابل للتضحية (والتنكيل) به من أجل حماية "الدولة") و لكنه نتيجة اختلاف فى الرؤية ناتج عن اختلاف فلسفة المؤسسة العسكرية فى الإدارة. بالنسبة الى المجلس العسكرى فهو يريد ان تعود الامور الى مجاريها ومن السخافة ان اطلب من ضباط الجيش ان يقوموا بتغيير فلسفة المؤسسة العسكرية—فهذا اكثر مما يطيقون حتى الصغار و الشباب منهم, و لكن من السخافة و البلاهة أيضا ان يطلب بعض الناس اننا نقعد نتفرج و نثق ثقة عمياء فى إدارة القوات المسلحة للفترة الانتقالية. و من السخافة ايضا ان نتعرض للاتهام بمحاولة اثارة الفتنة كلما حاولنا التفكير بصوت عالي! التمرد و التظاهر أفكار مكروهة بالنسبة لمن تربى فى المؤسسة العسكرية, و الوصف الادق لموقف المجلس العسكري من الثورة هو ما كتبه عمر طاهر "الجيش لم يحم الثورة.. لأنه تعامل معها بطريقة «فض الخناقة»، ولم يتعامل مع روحها كما كنا نحلم جميعا". و ستستمر حالة الشد و الجذب اذا لان فى النهاية لن يصح الا الصحيح فى و لن يستطيع تحقيق مطالب الثورة الا المؤمنين بها فعلا. لن يستمر هذا لأنه ببساطة غير قابل للاستمرار.   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق