الثلاثاء، 12 يوليو 2011

عن الأساطير المتعلقة بالقوات المسلحة—مجلسها و ظباطها—و موقفها من الثورة


أولا: مقدمة متحذلقة و لكن ضرورية

ماذا تفعل لو تلقيت  تعليمات بإطلاق النار على متظاهرين عزل من بنى وطنك؟


طرحت هذا السؤال على أكثر من واحد من زملائي العسكريين ببعثة حفظ السلام, من جنسيات مختلفة اغلبها من الدول النامية, و يعملون بأفرع و أسلحة مختلفة بالجيش من المشاة و المدرعات و القوات الجوية و الشرطة العسكرية و حتى الأفرع الفنية والهندسية. كان القاسم المشترك في الإجابة دائما هو استعداديه صادمة لاستخدام العنف القاتل اذا لزم الأمر (طبعا كان يتم تمييع الموقف بالاستناد الى صعوبة تحديد متى يلزم الأمر). و بما اننى تعايشت لفترة طويلة مع زملائي العسكريين الذين كانوا أصدقاء أكثر مما كانوا زملاء و حاولت بقدر الإمكان أن أتفهم هذا الموقف ممن يبدون لى بشر عاديين جدا إذا خلعوا البذلة العسكرية, خاصة في معسكر حفظ السلام الذي كنا نعيش به حيث تبدو الحياة شديدة الرتابة و فتجد الزملاء العسكريين يذهبون الى مكاتبهم أحيانا "بالشبشب" و ينتهون من أعمالهم المكتبية في الرابعة ثم يتناولون المكرونة على اعشاءو يشاهدون الأفلام المبتذلة فيغالبهم النعاس بحلول العاشرة, اللهم الا اذا أجبروا على المشاركة في دورية طويلة الأجل. و لهذا كان من الصعب بالنسبة لى أن اتصالح مع فكرة أن هؤلاء التعساء المساكين قد يتحمسوا بهذه السهولة لقتل مدنيين عزل من أبناء نفس الوطن, فكان الاستنتاج البديهي  أن العسكريين بصفة عامة مدربين على التعامل بالقوة--فنظرتهم للبشر هي نظرة قالبيه لا تعترف بالفردية أو التفرد و هذا من صميم فلسفة المؤسسة العسكرية لان أمور الحرب و الدفاع لا مجال فيها للاعتبارات الفردية التي قد تفتح الطريق للتعاطف مع الخصم, أو هكذا قال لنا "الأقدمون" عن فكر المؤسسة العسكرية. بمعنى أن مواجهة الخصم تتطلب اختصاره في قالب واحد مبسط لا يعترف بالاختلاف او التنوع بالبشرى—و هو امر قد يكون ضروري فى بعض الأحيان, ففي أوقات الحرب و الاستنفار تقترب هذه الرؤية كثيرا من الحقيقة حيث تذوب الفروق البشرية في فكرة أو قيمة واحدة و هو ما يجعل ملايين البشر "على قلب رجل واحد" ولكنه أمر له تداعيات سلبية على النفس البشرية على المدى البعيد خاصة بالنسبة للذين شاركوا فى الحرب بدون أن يحصلوا على نفس التربية العسكرية من المتطوعين و المجندين. لا أجد ما يوضح هذا التباين الفكري أكثر من روايات فترة مابين الحربين العالميتين و ما بعد الحرب العالمية الثانية, التي جعلت أبطالها من بشر عاديين قاوموا هذه الفكرة و حاولوا التأكيد على فرديتهم في اثناء الحرب مثل "كل شىء هادئ على الجبهة الغربية" و "كاتش 22" و هى الروايات الى استحدثت مفهوم البطل الروائي الـ(anti-hero) المغاير للبطل الكلاسيكى في روايات الحروب, وهوالذى تقوم بطولاته على أساس انتصاراته و صولاته في ميادين القتال؛ ففى كاتش 22 على سبيل المثال بطل الرواية لا يطيق الحرب و لا يجد سبب مقنع لتورطه هو شخصيا فى الصراع المسلح مع قوات المحور و تدور الرواية حول محاولاته المستمرة للهروب من المعركة و الإفلات من المواجهات القتالية و هو يسخر بشكل دائم من مفاهيم الوطنية و الجندية و الشرف--و هو الشئ المميًِز لروايات تلك الحقبة, محاولة التأكيد على أن هناك في ميادين القتال من لازال ينظر للمعركة و للخصم نظرة مواطن طبيعي عايز يعيش. و بدون إطالة في التفلسف نعود لثقافة المؤسسة العسكرية التي تنتج نظرة مختلفة و متناقضة لنظرة المواطن العادي بالنسبة للجوء الى القوة و هذا أمر قد يكون مشروع بالنسبة للعسكريين, و لكنه يصبح محل جدل عندما تتدخل القوات المسلحة في الشؤون الداخلية للبلاد و هو التدخل الذي قد يتطور و يصل الى مواجهة مع أبناء البلد نفسه. هذا الاختلاف في الفكر و الأسلوب قد يفسر موقف ضباط الجيش من الثورة و الثوار و المتظاهرين بصفة عامة و يفند الأفكار التي يتمسك بها البعض عن موقف الجيش (بخلاف القيادات) من الثورة و قد يساعدنا على فهم أسلوب الجيش فى التعامل مع المتظاهرين.  الشيء الأخر الذى يصعب ألا نتفق عليه هو أن المؤسسة العسكرية تعلى قيم الانضباط و الاستقرار و الالتزام على أى قيم أخرى مثل القيم التي قامت الثورة في مصر من اجلها و هى الحرية و العدالة. و هذا أيضا مكون رئيسى من سيكولوجية المؤسسات العسكرية فى كل دول العالم و ليس فى مصر فقط--و يبدو أن الكثير من المصريين لم يلحظ (أو نسى أة تناسى) أنه عندما   أطلق اللواء محسن الفنجري تحيته التليفيزونية للشهداء ذكرهم على أنهم من ضحوا بحياتهم "من أجل أمن و استقرار مصر" (عمرك سمعت عن واحد بيثور و يضحي بحياته من أجل الاستقرار؟), و هو ما بدا لي رفضً مقصود (أو قد يكون غريزي) من المجلس العسكري للاعتراف بأهداف الثورة المتمثلة في الحرية و العدالة. فلنتفق أيضا أن مركزية القرار في المؤسسة  العسكرية و هيراركية النظام تخلق ولاء مطلق بين الجنود والضباط للقيادة المركزية. فالكثير من الناس يتحدث عن وجود فجوة في الثقافة السياسية ما بين قيادات المجلس الأعلى للقوات المسلحة و الضباط الميدانيين, و رغم انى اعتقد أن هذا صحيح إلى حد كبير و لكنه لا يعنى بالضرورة  تعاطف الضباط من ذوى الرتب الصغيرة و المتوسطة مع الثورة أو الثوار أو مبادئ الثورة.  

ما أحاول الوصول إليه هو أننا حمِّلنا العسكريين اكثر مما يطيقون عندما ظننا أنهم قد ينحازوا الى قيم الثورة فهي منافية لطبيعة عملهم و تربيتهم العسكرية, و هذا الكلام ينخلع أيضا على نسبة كبيرة من الضباط صغيري السن و الجنود بالرغم من أنهم بطبيعة الحال اقرب إلى الشارع و الى المواطن العادى من المجلس الأعلى ولكنهم أيضا يحملون الولاء لقيادتهم و للسلطة المركزية و للرئيس (المخلوع) نفسه. وسوف استدل على هذا عن طريق استعراض خبراتي الشخصية مع الضباط الذين عملت معهم لمدة عام فى البعثة و ما لمسته من آراء الضباط الشخصية أثناء المحادثات العامة التى كانت تدور بالميدان و أثناء اعتقالي قبل التنحي لمدة ليلة قضيتها فى الجدال السياسي مع ضباط فرقة المدرعات و الشرطة العسكرية, بالإضافة إلى كل ما وصل إلينا من خبرات و شهادات عن تعامل الضباط مع المتظاهرين في فترة ما بعد الثورة إثناء فض الاعتصامات المتتالية فى الميدان و فض مظاهرة إحياء ذكرى النكبة عند السفارة الإسرائيلية.

ثانيا: دردشة مع الضباط

اول الإحتكاكات كان بتاريخ 3 فبراير (بعد موقعة الجمل بيوم واحد) عندما تم اعتقالي أنا و اثنين من اصدقائى أثناء سيرنا فى مدخل عمر مكرم المؤدى للتحرير متوجهين الى جاردن  سيتي. قام بعض من شباب اللجان الشعبية مشكورين بتسليمنا الى الشرطة العسكرية التى اعتقلتنا بحجة خرق حظر التجول و التقاط صور لمدرعات عسكرية (مجرد حجة لتوفير سند قانونى للإعتقال لكن فى اليوم ده كان فى حملة اعتقالات عشوائية موسعة حوالين الميدان) و كان هذا هو أول اصطدام لنا بموقف الضباط الحقيقى من الثوار على الأقل أثناء الثورة نفسها و بعد يوم من موقعة الجمل التى دفعت الكثير للتساؤل عن موقف الجيش بصفة عامة من المتظاهرين و من الثورة (لاحظ ان دول كانوا الكام يوم الي انتشرت فيهم اشاعات المؤامرة الايرانية الصهيونية الدولية والكلام عن التدريب في "فريضم هاوس", و أنه في الأيام دي كان شباب اللجان الشعبية المحيطة بالتحرير بيبقضوا على اى حد شاكله من شباب التحرير على انه جاسوس و يسلموه للجيش, تنفيذا لتعليمات الجنرال الملحن عمرو مصطفى). بعد توقيفنا دار حديث على قدر لم أتوقعه من الحدة بيننا و بين ضابط الشرطة العسكرية الذي قام" بتأفيزنا" و تسليمنا لفرقة مدرعات كانوا قد اتخذوا من كشك ألوميتال فى أول شارع القصر العينى مقرا لهم, في مقابل اللوحة الشهيرة التي تحمل عبارة "الديمقراطية توكيد لسيادة الشعوب" و التي تفضل قوات الأمن في مصر أن تنتهك حقوق المواطنين أسفلها. استمر الحوار مع الضباط  و لم يقطعه إلا تحقيق قصير من ضابط مخابرات عامة برتبة عميد.
1-      دخل الضباط فى جدال حول جدوى الاستمرار فى الاعتصام و التظاهر, و كان بعضهم على قدر  من الثقافة و الخطابة خاصة قائد الفرقة, ولم يحاولوا الدفاع عن النظام و إنما قاموا بالتركيز على نقطة إنهاء حالة الفوضى و الصبر على الرئيس إلى أن يأتينا شهر سبتمبر. و رغم ان كلام الضباط كان يوحى بثقافة لا بأس بها إلا أن أرائهم كانت مطعمة بقدر عظيم من الشك و ببعض نظريات المؤامرة التي لا تستطيع ان تصمد فى وجه المنطق أكثر من خمس دقائق. فمثلا احدهم اقسم لي إنهم قاموا بالقبض على إسرائيليين في شقة بالقرب من التحرير و وجدوا بحوزتهم أسلحة آلية! أثناء الحديث الذي استمر منذ الليل حتى ظهر اليوم التالى (فى انتظار ضابط مخابرات اخر جاء للتحقيق معنا ثم تقرير مصيرنا) حاول قائد الفرقة ان يقنعنا—و كان يتحدث بأدب و لباقة و يسمح لنا بالدفاع عن آرائنا—بنظرية أننا شباب شريف و لكن مغرر به و غير مدرك للأصابع الخفية التى تحركنا و تسعى لخراب مصر. و لم يتوقف الكلام عن البلطجية الذين قبض عليهم فى التحربر و بحوزتهم اسلحة بيضاء—و عندما كنا نعترض و نقول "يا جدعان فين البلطجية دول ماحنا عاملين لجان شعبية مكثفة بتطلع عين الواحد الى بيفكر حتى يخش" كان ردهم انهم متأكدين من ذلك لانهم قبضوا بالفعل على العشرات من البلطجية "بس احنا مش عارفين حاجة". أذكر أيضا مكالمة تليفونية لأحد الضباط الذين لم يشاركوا فى حديثنا الودي مع الضباط الآخرين طولها خمس ثوانى بالضبط كان مفادها الاتى:
"ايه؟ واحد افغانى عند ابو شقرة؟ هاتهولى حالاً"
و طبعا الخاطر الوحيد الذى دار بذهنى وقتها هو "افغانى ايه الى عند ابو شقرة ده والنبى؟" - و لم أعرف حتى اليوم ان كان هذا الظابط و غيره مصدقين فعلا لهذه النظريات التآمرية الطفولية ام أنها كانت مجرد  محاولة للضغط النفسى على المعتقلين الموجودين بالغرفة
دار أيضا حديث سريع بيننا و بين احد المجندين خريج آداب قسم فلسفة حدثنا عن عشقه للفلسفة و استعرض علينا اسماء بعض الفلاسفة الغربيين الذين قرأ لهم (عشان يثبتلنا يعنى انه يهوى الفلسفة بجد مش مجرد واحد ماجابش مجموع و خرج من الكلية زى ما دخلها), و عندما تطرقنا الى الحديث عن المظاهرات و الاعتصام صدمنا بقوله "و الله العظيم انا مستنى بس الاوامر عشان اخش اموت الناس دى كلها"—و قد حرص على استخدام تعبير "اموت" لكى يؤكد لنا انه—عاشق الفلسفة الذى كان يحدثنا عن نيتشه قبل خمس دقائق—لا يجد اى وازع أخلاقي يحول دون استخدام القتل و ليس مجرد العنف لفض الاعتصام! استمرت هذه الأحاديث متقطعة إلى أن جاءنا ضابط من المخابرات العامة للتحقيق فى اليوم الثاني ثم قامت المخابرات العسكرية بنقلنا (او من اعتقد انهم من المخابرات العسكرية, طبعا لم يقوموا بتعريف نفسهم كما ان عيوننا كانت قد تم تعصيبها قبل البدء فى عملية النقل, ولكن افترضنا انهم من المخابرات العسكرية على اساس ان ضباط فرقة المدرعات كانوا بيهزروا معانا هزار تقيل شوية لما كنا بنسال احنا مصيرنا ايه و يقولوا "الموضوع بتاعكوا مش فى ايدينا انتم هتروحوا لحاجة من اتنين يا اما "مخ" يا اما "مع" الى هما بعد كده عرفنا انهم مخابرات عامة و مخابرات عسكرية رغم أني لحد النهاردة مارفتش مين فيهم الى بيتقال عليه مخ و مين مع) و تم نقلنا فى ميكروباص ابيض مع مجموعة أخرى من المقبوض عليهم الى أن تم إطلاق سراحنا أنا و اصدقائى دونا عن باقي المعتقلين في صلاح سالم. و بعد تنحى مبارك بيوم واحد توجهت الى النقطة نفسها حيث كنا معتقلين لألقى السلام على الضباط ووجدت اثنين منهم و لم اجد قائد الفرقة و تلقونى  ساعتها بالأحضان و القبلات, و رغم ذلك و رغم أنى طبعا حيت الضباط دول لأنهم عاملوني بكرم (خصوصا مقارنة بالمعتقلين الاخرين الي كانوا بيتضربوا من باب التسلية من ظابط صاعقة ماكانش مشارك في الحوار و لا في التحفظ علينا), الا اننى متأكد انهم لم يثقوا فينا ومازالوا معتقدين ان شباب الثورة شباب منفلت مغرر به خرب البلد.(يتبع)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق